ينظر إلى المؤسسة العامة للإسكان، على أنها المطور العقاري الأول في سورية وهي مؤسسة ذات طابع اقتصادي حكومي، أهدافها المساهمة بتلبية الحاجات الإسكانية، والمساهمة بالارتقاء بمستوى العمران وتعزيز مفاهيم السكن الاقتصادي.
واليوم بات الاعتماد على العمل الحكومي التقليدي أمراً مرهقاً على الحكومة بشكل خاص، وذلك يعود إلى المساحة الكبيرة الخاوية، التي لم تعد صالحة للسكن من جراء سنوات الحب على سورية، إضافة إلى الكثافة العالية، التي يعاني منها العالم بشكل عام.
فقد تفاقمت الآثار السلبية لظاهرة الانفجار السكاني في العالم, وبدأت تضيق المساحات السكنية على المواطنين، وأصبحت إمكانية الانتفاع من المرافق العامة محدودة مع هذا التضخم، وإن كنا في سورية لا نعاني من هذا التضخم السكاني بشكله المعاصر، إلا أننا نعاني من الكثافة السكانية العالية، حيث تحتمل بعض المحافظات دون سواها، الضغط السكاني العالي عن بقية المحافظات الأخرى، كما تحتمل ضمن هذه المحافظات بعض المناطق السكنية، كثافة أعلى من مناطق أخرى.
النمو الأفقي
وبعد أن أخذت بوادر هذه الأزمة تظهر على السكان، سواء في بلدنا أم غيره من البلدان التي تعاني من التعداد البشري الكثيف، فقد بدأت الحاجة ملحة لتطوير القطاع العمراني بحيث يستطيع استيعاب هذا التضخم السكاني، حيث يتجه خط التطور العمراني في العالم المعاصر إلى اعتماد النمو الأفقي في التطور العقاري ، وتخطط الدول لتقليص مساحات الازدحام، وفتح الطرقات، عن طريق التوسع في المشروعات العمرانية، التي تعتمد على الأبراج العالية في حشد أكبر قدر ممكن من السكان بأقل قدر ممكن من المساحة.
أكثر بساطة وأقل تكلفة
وعلى الرغم من ذلك فنحن نجد أن هذه الوحدات السكنية الحديثة تفتقر إلى إمكانية الانتشار، حيث يجب أن تتوافر الكثير من الظروف الطبيعية، والشروط القانونية، والقدرات المالية للسير في هذه الخطة الحديثة، ولتجنب هذه العقبات، فقد اعتمدت الحكومات والشركات العقارية العملاقة على حلول أخرى أكثر بساطة وأقل تكلفة، لاسيما في البلدان التي تعاني من نقص في البنية التحتية والمالية المناسبة للسير في المشروعات السكنية الضخمة، أو التي لا تحظى بالظروف الطبيعية الملائمة.
يتجه خط التطور العمراني في العالم المعاصر إلى اعتماد النمو الأفقي في التطوير العقاري
وأحد هذه الحلول كان في تطوير وتنظيم عقود الإيجار السكني، وذلك عن طريق اعتماد نظام الوساطة العقارية المنظم، كتجارب السعودية والإمارات وبروكسل عاصمة بلجيكا، حيث اعتمدت الحكومات على طرح المكاتب الحكومية الفارغة إلى متعهدين ومنحهم حقوق استثمار العقار لغرض السكن، مع حقهم بالحصول على نسبة من الإيرادات المالية التي تدخل خزانة الدولة، وبهذه الطريقة تم الرجوع لتفعيل أنظمة الإيجار البسيطة، كالسكن المشترك وثقافة الإيجار الطويلة الأمد، وإضافة التعديلات القانونية على قوانين الإيجار.
الاستثمار المتعدد الأسر
في الأساس، الاستثمار المتعدد الأسر هو إستراتيجية تتضمن الاستحواذ على عقارات تتكون من وحدتين سكنيتين أو أكثر، بما في ذلك المباني السكنية و”الدوبلكس” والوحدات السكنية والعقارات المكونة من 2-4 وحدات، حيث تتعهد الحكومة بالقيام بتسليم منشآتها إلى مستثمرين وشركات عقارية، حتى تصبح مجهزة للسكن، وقد تم اعتماد هذه المبادرة في الدول التي باتت تعاني من تجميد هذه العقارات الحكومية، نتيجة لثورة الاتصالات والعمل عن بعد والتي أخرجت الكثير من المنشآت الحكومية عن الخدمة، من أجل تقليل نفقات العمل الحكومي، وبذلك فقد تحول بذلك هذا العجز إلى مصدر دخل حكومي، فالحكومة قادرة على التقليل من الإيجارات العائلية الفردية (SFR).
إذا عوضاً عن الاعتماد على شاغل واحد لتوليد دخل الإيجار، يمكن للمستثمرين الحصول على مصادر دخل متعددة من الوحدات الموجودة في موقع واحد، حيث إنه يعطي إمكانات أعلى بسبب مساهمة الوحدات المتعددة في دفعات شهرية متوزعة بين المستأجرين، ما يوفر تدفق دخل متنوع ومرن.
علاقة تعاقدية ثلاثية الأطراف
اعتمدت استراتيجية تنمية العقارات المتعددة الأسر على توسيع الفرصة أمام للمستثمرين في مجال التطوير العقاري، حيث إن الشكل التعاقدي البسيط للعلاقة الإيجارية ينطوي على مخاطر سوقية عالية، مثل النمو السكاني أو ازدياد الكثافة السكانية، وارتفاع وانخفاض العرض والطلب، ونذكر على سبيل الخصوص في بلادنا مشكلة الارتفاع المطرد للإيجار بسبب التضخم، كلها عوامل تعد مخاطر تستوجب الاتجاه لتفعيل السكن المتعدد الأسر.
في بعض التجارب الحديثة اعتمدت الحكومات على طرح المكاتب الحكومية الفارغة إلى متعهدين ومنحهم حقوق استثمار العقار لغرض السكن
وبناء على ذلك يمكننا أن نطرح فكرة أن الإيجار المتعدد سيمنح فرصة للحكومة والمستثمرين بتأجير هذه الشقق بسعر السوق الملائم، وذلك لأنهم يعتبرون طرفاً نزيهاً، لا يهمه السعي وراء الربح الفاحش، فإدخال النظام الحكومي في منظومة الإيجارات الوطنية، سيصنع نظاماً أكثر عدالة ومساواة في الحقوق بين المؤجر والمستأجر، اللذين يجدان نفسيهما عادة في عقود إذعان بين الطرفين.
أما النظام المتعدد الأسر فهو يعد استثماراً حكومياً، أي للحكومة الحق في الأجرة التي تراها مناسبة بما أنها مؤسسة غير ربحية، فهي قادرة على التحكم، وهي أكثر جدارة بالحرص على توفير الحق الدستوري للمواطنين بتأمين السكن، بدل أن يبقى خاضعاً لسلطة السماسرة.
وبما أن للمستثمر الحق في الحصول على النسبة المئوية من عائدات الدخل لهذه المشروعات السكنية من الحكومة، ما يجعل علاقته مستقلة عن المستأجرين، وبهذه العلاقة القانونية الثلاثية الأطراف، يخرج عقد الإيجار عن مفهومه القانوني القديم، الذي هو علاقة بين طرفين لأحدهما غالباً امتياز على الآخر.
وبناء على ذلك فإن كل هذه العوامل تجعل الاستثمار المتعدد الأسر خياراً مثالياً للعديد من المستثمرين الذين يتطلعون إلى البقاء في صدارة سوق العقارات السورية.
تفعيل سياسة الإيجارات الطويلة الأمد
تعتمد خيارات المستأجرين في الإمارات العربية المتحدة على عوامل عديدة تساهم في رفع مستوى الراحة لديهم، مثل مدة الاستقرار وسهولة التنقل وتوفر الخدمات والمواصلات وتكلفة الإيجار على المدى الطويل وغيرها الكثير من المعايير التي تلعب دوراً رئيسياً بتحديد جودة السكن، حيث إن المحرك الأساسي للسكن في الوظائف والمدن هو الوظائف التي يجب أن يكون الطلب على الإيجار فيها أعلى، وهذه المعايير المذكورة تتحكم فيها بشكل رئيسي طبيعة أو نوع عقد الإيجار المبرم بين المالك والمستأجر، فعند الاستئجار يجد المستأجر نفسه بين نوعين من العقود، الأول عقد إيجار طويل الأجل والثاني عقد قصير الأجل، ويشتمل نموذج عقد الإيجار الطويل الأجل على بند قانوني يضمن للمستأجر عدم الحاجة إلى تجديده بشكل مستمر، وعدم التأثر بتغير أسعار استئجار العقار.
بعد انتشار العمل عن بعد اتجهت بعض الحكومات إلى تسليم منشآتها إلى مستثمرين وشركات عقارية حتى تصبح مجهزة للسكن ما يحقق لها عوائد جيدة
وفي إنكلترا وويلز، يوجد حوالي خمسة ملايين عقار مستأجر إيجاراً طويل الأمد، وهما الدولتان الوحيدتان في العالم اللتان ما زالتا تحافظان على عقد الإيجار ضمن النظام الإقطاعي، ورغم أنه في بادىء الأمر كان مرفوضاً حينما امتدت مفاعيله للحقبة المعاصرة، حيث إنه يمتد لفترة تتراوح بين 99 إلى 125 سنة، إذ لا داعي لتجديد عقد الإيجار، إلا أنه الآن صار حاجة ملحة، وفيه مزايا مرغوبة للذين يطلبون السكن، حيث بدأت سلبيات الإيجار قصير الأمد تتجلى بصورة واضحة للعالم، حيث إن الأخطار التقليدية في المتمثلة بانتهاء عقد الإيجار والمخاطرة بعدم رغبة المالك بالتجديد، إضافة إلى احتمالية تغير الشروط وتزايد القيود واحتمالية ارتفاع سعر استئجار العقار وخضوعه لتقلبات السوق، كلها عوامل يعاني منها جميع المستأجرين في العالم، على عكس إنكلترا وويلز، اللتين تمكنتا من ضبط سوق العقارات للراغبين بالسكن، ضمن أزمة اقتصادية خانقة يمر فيها العالم، ورغم ذلك فنحن نجد أن الإيجار لهذا الأمد الطويل هو أيضاً مجحف بحق المؤجر الذي يموت قبل تجديد مدة العقد، ولذلك قامت إنكلترا بتخفيض الأمد الطويل تدريجياً، ليكون متناسباً مع القوة الشرائية للمواطنين، حيث صارت هناك عقود إيجار تتراوح بين خمس سنوات وعشر سنوات، أما بالقياس على الساحة السورية، فنحن نرى أن القوة الشرائية للمواطنين هي أقل نسبية من السوق، وبناء عليه سيكون الإيجار الطويل الأمد أكثر قدرة على إيجاد التوازن بين أسعار السوق والقوة الشرائية، إذاً قدرة الإيجار تعطي فرصة أعلى للباحثين عن السكن في الحصول على الاستقرار داخل بلادهم، حيث يستطيع المؤجر أن يطلب سعراً عالياً لعقاره، من دون أن ينقل ملكيته عن اسمه للمستأجر، ويجب بناء عليه أن يقبل بالمخاطر المترتبة على تقلب سعر الصرف، بما أنه سيحصل على كمية كبيرة من الأموال، التي قد تساوي ثلاثين أو أربعين بالمئة من سعر المنزل الكامل.
ثقافة الأغنياء
يعد التملك اليوم أحد أهم الهواجس التي تؤرق الأغلبية العظمى من السكان، حيث غن القلق من عدم توفر البديل، والضغط الاجتماعي الذي لا بد من الأخذ به في الاعتبار، يدفع الجميع إلى السعي وراء شراء العقارات في عقود البيع القطعية، رغم ما ينطوي على ذلك من وقت وجهد من حياتهم وعملهم.
إدخال النظام الحكومي في منظومة الإيجارات الوطنية سيصنع نظاماً أكثر عدالة ومساواة في الحقوق بين المؤجر والمستأجر
فإن كان كما ذكرنا سابقاً أن المحرك الأساسي للسكن هو الوظائف، فإن التملك يبعد المواطنين عن هذه المنفعة، حيث إن الوظائف وعقود العمل هي فرص متحركة بينما يقع التملك ثابتاً، ونذكر على سبيل المثال انتشار هذه الظاهرة في الإمارات، حيث إن المستأجرين يقومون بتغيير مسكنهم للحاق بأعمالهم التي تتغير من حين إلى آخر، بينما لا يتمكن أصحاب المنازل من تتبع أعمالهم بالمرونة نفسها، حيث إن الإيجار أفضل للمواطنين بتأمين السكن والتنقل المريح.
كما تعد ثقافة الإيجار أيضاً أحد أساليب كسر الجمود في السوق العقاري، بينما يجمد التملك المفرط هذه السوق، حيث يجب الفصل بين حق الرقبة والانتفاع، فبينما يملك صاحب حق التملك، الحقوق الفرعية الناشئة عن التملك والتي هي حق الرقبة والانتفاع، فقد يكون للمالك دائماً التمتع بحق الرقبة، ولكن لن يكون له دائماً التمتع بحق الانتفاع، بل قد يكون حق الانتفاع أفضل لغيره، ولذلك فإن حق الانتفاع كان أكثر قدرة على تحقيق الاحتياجات الشعبية للسكان.
عالمياً أصبحت ثقافة الإيجار إحدى أساليب كسر الجمود في السوق العقاري بينما يجمد التملك المفرط هذه السوق
حتى إن رجال الأعمال يعتمدون مبدأ الإيجار لا مبدأ البيوع في التخطيط الاستراتيجي لأعمالهم، وذلك تحسباً لما قد يطرأ من تغيرات مستقبلية، الأمر الذي يعد دليلاً على أن التملك غير قادر على مسايرة المتغيرات في حياة الأفراد، بل القدرة على الانتفاع بالعقار هي العامل الحاسم في تحقيق الغاية الأساسية من سوق العقارات، ألا وهو توفير السكن.
وفي الختام لا بد أن نلفت النظر إلى حاجة العقارات المتعددة للاستخدامات التي تحتاج إلى مستثمرين ومطورين ومهندسين يضعون ثقتهم بشركات الدراسات والاستشارات المحلية.. فعلى المطور العقاري أو المهندس أن يبقى رائداً ضمن مجال عمله وألا يتحول إلى مقاول أو وسيط.