من يزرع الريح سيحصد العاصفة.. ترامب يتجاهل صفقة القرن ويعد بإنهاء الصراع في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل. فما الأوراق التي بين يديه لتحقيق هذه الأماني؟
إذا أردت أن تعرف سياسة ترامب الجديدة في الشرق الأوسط في ظل التغييرات والتحولات الكبرى في غزة ولبنان وسوريا والمنطقة، فعليك أن تمعن النظر مليا في سياسة إسرائيل. ذلك لأن الولايات المتحدة كانت دائما تضع في نصب عينيها مصالح إسرائيل قبل النظر إلى مصالحها. وفي كثير من الأحيان، فإن واشنطن تنظر إلى الأوضاع في المنطقة بالعين الإسرائيلية. أضف إلى ذلك العلاقة الحميمة التي تربط بين دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي كان ينتظر عودة ترامب ليواصل حربه على الفلسطينيين في الضفة الغربية وربما معاودة الحرب على غزة من جديد رغم دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العشرين من كانون الثاني الجاري.
مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى واشنطن لإقامته منذ حرب تموز عام 2006 يطل برأسه من جديد بعد إسقاط نظام الأسد وتولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإدارة في الولايات المتحدة. وربما يجد ترامب بهذا المشروع ضالته لمحاولة فرض الهيمنة على المنطقة الاستراتيجية الغنية بالنفط والغاز والموارد، والتي كانت دائما نقطة البداية لأي قوة ترغب بأن تتسيد العالم.
ولا شك أن ما حدث في الشرق الأوسط في بداية القرن الماضي بعد اتفاقيتي سايكس بيكو وتقسيم النفوذ الفرنسي البريطاني يتكرر اليوم بعد أكثر من مائة عام، حيث تسعى واشنطن وحلف الناتو لاستغلال الضعف الذي نتج عن حروب الإرهاب وحروب إسرائيل المتعاقبة ضد أبناء المنطقة طيلة السنوات والعقود الماضية لتغيير المشهد والخرائط الجيوسياسية لصالح كيان الاحتلال. لدرجة أن ترامب نفسه لم يتطرق إلى صفقة القرن التي طرحها في ولايته الأولى والتي تقضي بمنح إسرائيل المزيد من الأراضي وضم الضفة الغربية وغور الأردن، وذلك لأنه بات يعتقد أن الصفقة لم تعد تلبي المطالب الإسرائيلية بعد التغييرات التي عصفت بالمنطقة. فنتنياهو يسعى بعد حرب الـ15 شهرا في غزة إلى إنهاء وطمس ما يسمى حل الدولتين ومواصلة الاستيطان بعد انتهاء حرب غزة.
يؤيده في ذلك فريق ترامب الجديد، وبخاصة وزير الدفاع بيت هيغيست والسفير الأمريكي في تل أبيب، اللذان يتبنيان تماما الرؤية الإسرائيلية ويرفضان حل الدولتين. وفي وقت بات ترامب يعتبر نفسه الآمر الناهي على المسرح الدولي، تبدو التصرفات الأمريكية والإسرائيلية تجاه المنطقة أشبه بالتصرفات البلطجية والعنجهية. فإسرائيل تظن أنها باتت آمنة ولن يتجرأ أحد عليها بعد الآن بعد حربي غزة ولبنان، وأصبح قادتها يتصرفون بمنظور أن كيان الاحتلال القوة الرئيسية الباقية في المنطقة بعد سقوط نظام الأسد وتمكين تركيا العضو في الناتو من الدخول بقوة إلى الساحة السورية.
وبغض النظر عن تصريحات ترامب ورؤيته المتشددة خلال ولايته الأولى، فإن المؤشرات تؤكد أن ترامب وفريقه سيكونان أكثر تشددا في ولايته الحالية في طريقة التعامل مع الملفات الساخنة في المنطقة. فترامب سيكون دائما إلى جانب نتنياهو لتلبية كل طلباته وشروطه، ولن يقوم بلجمه كما كان يفعل سلفه بايدن، بل على العكس سيطلق يده ربما باتجاه الحرب مع إيران.
ولا شك أن دخول وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ يعد إنجازا لترامب، الذي وعد الشعب الأمريكي بأنه سوف يعمل على وقف النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. وسوف يعمل بكل جهده لمنع أي نفوذ لإيران في المنطقة.
المسرح الشرق أوسطي اليوم كما يبدو مهيأ لمرحلة جديدة برعاية أمريكية تركية إسرائيلية، خاصة مع وجود حاجة روسية ملحة للتعامل مع إدارة ترامب بإيجابية من أجل وقف الحرب في أوكرانيا. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصبح على قناعة بضرورة وقف الحرب في أوكرانيا، خاصة بعد أن تحققت معظم أهداف العملية العسكرية الروسية. إلا أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي عندما يتعلق الأمر بمسألة وجودها في المياه الدافئة.
الصورة الكاملة للشرق الأوسط، التي تعتبرها واشنطن منطقة نفوذ لها، لا يمكن رسمها بهذه البساطة، وهي لا تعبر عن جوهر المنطقة وحقيقة تفكير أبنائها وسلوكهم التاريخي. فحتى بعد اتفاقيات سايكس بيكو، لم تهدأ المنطقة، وبقيت بركانا مشتعلا ضد الوجود الفرنسي والبريطاني. واليوم يتكرر المشهد بعد أكثر من مائة عام، حيث إن سوريا هي بيت القصيد وأساس التحولات. ولا شيء محسوما حتى الآن في الخارطة السورية الاستراتيجية الملتهبة.
التحولات في سوريا ستؤدي إلى تغييرات كبرى في الخارطة السياسية الشرق أوسطية. فالوجود الروسي والأمريكي والتركي على الساحة السورية يحتم التنسيق والتعاون لمنع التصادم. اللقاء المرتقب بين الرئيسين ترامب وبوتين سيعالج الوضع في الشرق الأوسط وأوكرانيا على حد سواء، حيث تمتلك روسيا أوراق قوة يمكنها طرحها على الطاولة لكبح اندفاعة ترامب.
الشعب العربي برمته يرفض مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يكرس إسرائيل في قلب الأمة. وصفقة القرن التي يسعى ترامب لترويجها بعناوين أكثر بشاعة وظلما للفلسطينيين لن تلقى القبول.
المنطقة في عهد ترامب تتجه إلى المزيد من التصعيد والفوضى والإرهاب. الدول العربية تتخوف من المشروع الإسرائيلي والمشروع التركي الإخواني أيضا، ولن تركن للدور التركي الجديد في سوريا. الرئيس رجب طيب أردوغان لن يتمكن من تطويع سوريا لخدمة أطماعه العثمانية. كما أن نتنياهو، وقد أخذته العزة بالنصر على حماس في غزة، لن يتمكن من إشعال الحرب مع إيران، التي تتحالف مع روسيا والصين. وإذا ما أشعل حربا، فإنها ستتحول إلى حرب عالمية وربما نووية، وإسرائيل لن تتحمل حربا كبرى إذا كانت غزة لوحدها قاومت 15 شهرا.
الشرق الأوسط الجديد الذي يحلم به ترامب ونتنياهو لن يكون كما يخطط ويرسم ترامب ونتنياهو. ومهما بلغ الضعف بالدول العربية وركونها للواقع الجديد، إلا أن الجمر تحت الرماد. الولايات المتحدة التي زرعت الخوف والإرهاب ودعمت العدوان ستبقى حبيسة أفعالها ومظالمها، وهي تواجه تحديات داخلية وانقسامات. هذا طبيعي، لأن من يزرع الريح سيحصد العاصفة. والعاصفة قادمة من الشرق لا محالة، أو ربما من داخل أمريكا نفسها.