تشهد السويداء اليوم حراكا سياسيا مكثفا يعكس طبيعة المرحلة الجديدة التي دخلتها سوريا بعد سقوط النظام. فوفقا لما أكده الصحفي والناشط في الشأن العام رواد بلان في حديث خاص لشبكة شام نيوز إنفو عبر إذاعة ميلودي إف إم، فإن الحياة السياسية تعود تدريجيا إلى السويداء، حيث يسود استقرار أمني وعسكري واضح، إلى جانب نشاط سياسي متصاعد يتمثل في لقاءات مع وفود من مختلف المحافظات السورية، فضلا عن تواصلات دبلوماسية متزايدة. هذه الديناميكية الجديدة تعكس واقعا مختلفا عن السنوات الماضية، حيث كانت السويداء تعيش حالة من التوازن مع النظام رغم محاولاته المستمرة لإثارة الفتن، وهو ما جعل لحظة سقوطه مفاجئة لكنها في الوقت نفسه مريحة لكثيرين ممن عانوا من ممارساته لعقود.
السويداء لطالما امتلكت خصوصية تميزها عن باقي المناطق السورية، إذ أنها ظلت مستقلة نسبيا عن نهج النظام، حيث رفض العديد من أبنائها الالتحاق بالجيش، وكان هناك موقف شعبي واضح ضد الانخراط في الصراع الداخلي، وهو موقف يعود إلى بدايات الثورة عام ٢٠١١، حين أكدت السويداء رفضها لأن يُسفك الدم السوري بيد السوريين. هذه الخصوصية لم تكن تعني انعزالا أو ابتعادا عن الهم الوطني، بل كانت تعبيرا عن رؤية تنادي بدولة وطنية عادلة قائمة على المساواة والمواطنة، وهو ما كرسته القيادات المجتمعية والناشطون المدنيون ورجال الدين الذين أكدوا دائما أن خطابهم موجه لجميع السوريين وليس لطائفة بعينها. رغم ذلك، هناك من حاول تصوير هذا الخطاب على أنه ذو بعد طائفي، مستندا إلى أن التصريحات تصدر أحيانا عن شخصيات دينية، متجاهلا أن هذه الشخصيات تعبر عن رؤية وطنية تتقاطع مع طيف واسع من القوى السياسية والمدنية.
في سياق المشهد السياسي العام، يرى بلان أن النظام عمل على مدى ٥٧ عاما على إنهاء الحياة السياسية في سوريا، حيث فكك الأحزاب وقسم المجتمع، مما جعل الفراغ السياسي الذي تشهده البلاد اليوم نتيجة طبيعية لهذا النهج. ومع ذلك، فإن ظهور رجال دين في المشهد لا يعني أنهم يعبرون عن بعد ديني فقط، بل هم أشخاص معنيون بالعمل العام ويعكسون رؤى سياسية ومدنية واسعة. وفي ظل غياب الحياة السياسية المنظمة، وجدت المجتمعات السورية في كل المحافظات منابر ومنصات تعبر عن مطالبها، وهو ما يؤكد أن المسألة ليست خصوصية طائفية بل ناتج عن طبيعة البنية المجتمعية التي فرضها النظام لعقود طويلة.
منذ تأسيس الدولة السورية، لم تسع السويداء إلى الحصول على مكتسبات سياسية أو مناصب سلطوية، حيث رفض سلطان باشا الأطرش أي امتياز سياسي رغم دوره القيادي في الثورة السورية الكبرى، كما أن السويداء لم تستخدم القوة لتحقيق مكاسب سياسية. هذا النهج ظل حاضرا حتى اليوم، حيث يتمسك أبناء السويداء بفكرة بناء الدولة السورية على أسس وطنية، بعيدًا عن المحاصصة والصراعات الفئوية، وهو ما يجعل مطالبهم اليوم امتدادا لنضال مستمر منذ قرن من الزمن.
فيما يتعلق بمسألة تسليم السلاح والانضواء ضمن الإدارة الجديدة، أوضح بلان أن القوى السياسية والمدنية في السويداء، بما في ذلك الشيخ الهجري، لم تضع شروطا، بل قدمت خارطة طريق تضمن حقوق جميع السوريين وتحقق مشاركتهم في بناء الدولة. هذه الرؤية تستند إلى ضرورة الانتقال السياسي عبر تشكيل حكومة انتقالية تمثل جميع الأطياف، لكن إدارة العمليات في دمشق لم تقدم حتى الآن أي خطوات فعلية لتحقيق ذلك، بل تتبع نهجا يعكس استمرار العقلية السابقة.
إحدى أبرز القضايا التي تثير القلق اليوم هي مستقبل الجيش السوري، حيث يشدد بلان على أن تحويل الجيش إلى بنية فصائلية قائمة على فكر الجماعات يمثل تهديدا حقيقيا لوحدة البلاد واستقرارها. فالمؤسسة العسكرية ينبغي أن تقوم على ضباط محترفين يمتلكون الخبرات الأكاديمية والعسكرية، بعيدا عن الانتماءات العقائدية أو السياسية. لكن ما يجري حاليا هو تهميش الضباط المحترفين لصالح قادة فصائل لا يمتلكون الانضباط العسكري المطلوب، مما يضع مستقبل الجيش السوري في خطر. هناك آلاف الضباط المنشقين الذين ما زالوا في تركيا، بالإضافة إلى الآلاف ممن بقوا في مواقعهم وقدموا خدمات كبيرة للمجتمع السوري، وهؤلاء هم الأجدر بقيادة الجيش الوطني الجديد وليس قادة الفصائل الذين ظهروا خلال الأزمة.
يترافق ذلك مع مشكلة أخرى تتعلق بإدارة الدولة، حيث يرى بلان أن اختزال المؤسسات في أشخاص وإعادة إنتاج عقلية الولاء مقابل الفساد ستؤدي إلى تكرار نفس الأخطاء التي أسقطت النظام السابق. الفساد اليوم لم يعد مجرد ظاهرة داخل مؤسسات الدولة، بل تحول إلى منظومة أكبر من الدولة نفسها، ولا يمكن القضاء عليه إلا من خلال بناء مؤسسات حقيقية تعتمد على الحريات والقضاء المستقل. لكن ما يحدث حاليا هو محاولات للهيمنة على القضاء واستقدام شخصيات من خارج المؤسسة القضائية لفرض أجندات معينة، مما يؤدي إلى حالة من الفوضى وانعدام الثقة بالمؤسسات.
الأحداث التي شهدتها مدن مثل حمص واللاذقية وطرطوس كشفت عن خطورة استخدام الفصائل في تأسيس المؤسسات الجديدة، حيث أدى ذلك إلى انتهاكات واسعة وغياب كامل لمفهوم الدولة. بلان يشير إلى أن التجارب التاريخية، مثل تجربة الخمير الحمر، أظهرت أن الاعتماد على الفكر الفصائلي في مؤسسات الدولة يقود إلى كوارث، حيث تتحول هذه المجموعات إلى أدوات للقمع بدلا من أن تكون جزءا من بناء الدولة. استمرار هذه العقلية في سوريا اليوم ينذر بمخاطر حقيقية، خاصة مع وجود مجموعات ترتدي الزي الرسمي وتنفذ عمليات تفتيش، ثم تتبعها مجموعات أخرى تمارس الانتهاكات دون أي رادع، مما يخلق بيئة من الفوضى والانتهاكات المستمرة.
في ظل هذه الظروف، يرى بلان أن الشرع بدأ يخسر الكثير من الثقة التي اكتسبها عند دخول دمشق، حيث بدأ العد العكسي لما حققه من مكاسب سياسية. استمرار النهج الحالي سيؤدي إلى مزيد من التوترات، خاصة أن سوريا لا يمكن أن تحكم من قبل جماعة واحدة أو لون سياسي واحد. الإصرار على هذا النهج الأحادي سيقود البلاد إلى منحدر خطير قد يصل إلى حرب أهلية وتقسيم فعلي للأرض السورية، لأن أي محاولة لفرض حكم أحادي ستواجه رفضا واسعا من مختلف مكونات المجتمع السوري.
لكن رغم هذه التحديات، ما زالت هناك فرصة للإصلاح إذا اتخذت إدارة العمليات في دمشق قرارات حقيقية تضمن مشاركة واسعة في إدارة الدولة. بلان يرى أن الحل يبدأ بفتح المجال أمام جميع السوريين للمشاركة، والابتعاد عن احتكار المؤسسات، وخاصة الجيش. يجب استدعاء الضباط الأكفاء من جميع الأطياف، سواء المنشقين أو غير المنشقين، لبناء مؤسسة عسكرية موحدة قادرة على حفظ استقرار البلاد. استمرار النهج الحالي، حيث تهيمن مجموعة واحدة على السلطة بينما يصنف الآخرون ضمن قوائم الإرهاب، سيعطل أي إمكانية لاستقرار سوريا وسيؤثر على استقرار المنطقة ككل.
السويداء من جانبها تواصل الإصرار على نهجها الوطني الداعي لبناء دولة لجميع السوريين، بعيدا عن المحاصصة والطائفية. هذا النهج الذي تبنته المحافظة منذ عقود لا يزال حاضرا اليوم، حيث تؤكد السويداء أنها تمثل جميع السوريين الذين يطمحون إلى الاستقرار وبناء دولة حديثة تقوم على أسس المواطنة والعدالة، وليس دولة قائمة على منطق الغلبة والاحتكار. لذلك، ستظل محافظة السويداء متمسكة بموقفها حتى يتحقق بناء سوريا الجديدة بمشاركة جميع أبنائها.