يوما بعد يوم تتبدل خارطة السيطرة والنفوذ بين القوى المختلفة على الساحة السورية، ويتسع الجدل والنقاش داخل البلاد حول اتجاه الأحداث ومآلاتها مع استمرار التحديات الأمنية والاقتصادية. فيما تسعى الحكومة الجديدة لتغيير الصورة التي ارتسمت بعد أحداث الساحل الدامية، وتكثف تحركاتها في اتجاهات مختلفة لتحقيق المزيد من الأمن والاستقرار، مع تزايد التدخل الخارجي الإسرائيلي عبر إقامة علاقات متوازنة مع مختلف الدول والعمل على بناء علاقات جديدة مع الدول العربية وتركيا، بانتظار الموقف الأمريكي الذي لا يزال غامضا تجاه الوضع في سورية. مع أن الرئيس ترامب لعب دور الوسيط بين نتنياهو وأردوغان بعد فشل المفاوضات الإسرائيلية التركية حول سورية في أذربيجان.
زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع الناجحة إلى الإمارات العربية المتحدة تزامنت مع توقيع اتفاق ناجح مع قوات أحمد العودة المدعومة من الإمارات. وكان الاتفاق المذكور والحفاوة البالغة التي لقيها الرئيس الشرع خلال زيارته للإمارات عربون صداقة وإخاء بين دمشق وأبوظبي، وصفحة جديدة أرادت الإمارات فتحها مع الحكومة السورية التي تواجه تحديات جمة أمنية وسياسية واقتصادية. وربما كان لقاء الشرع في الإمارات مع رجال الأعمال رسالة بأن الإمارات التي لم تغب خلال سنوات طويلة عن الساحة السورية ستدخل سوق الاستثمارات في سورية بقوة.
رسمت الاتفاقيات بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سورية الديمقراطية المدعومة أمريكيا حدود السيطرة على مناطق شرق وشمال البلاد بعد انسحاب الأكراد من مناطق حلب وعفرين ومنبج باتجاه الجزيرة وتسليم الأشرفية والشيخ مقصود إلى قوات الأمن العام. في وقت لا يزال الهاجس الأمني يهيمن على المناطق الساحلية بعد أكثر من أربعة أشهر من سقوط النظام، جراء استمرار أعمال الخطف من قبل عناصر منفلتة وعدم قدرة المزارعين من الوصول إلى أراضيهم لزراعتها.
وبانتظار ما ستؤول إليه العلاقة بين الحكومة السورية وحركة رجال الكرامة بقيادة الشيخ حكمت الهجري رئيس طائفة المسلمين الموحدين الدروز المدعومة من إسرائيل، فإن خارطة سيطرة الدولة السورية على كامل الأراضي السورية تكتمل سياسيا، فيما لا يزال التنفيذ على الأرض يحتاج إلى وقت طويل. فلا تزال إسرائيل ترفض أي وجود لقوات وزارة الدفاع في جنوب دمشق بعد أن أصبحت منذ سقوط النظام السابق صاحبة الحل والربط بعد سلسلة الاعتداءات وعمليات القصف العنيفة التي قامت بها والتوغلات التي نفذتها لإحكام سيطرتها على شريط حدودي يمتد لخمسة عشر كيلومترا داخل الأراضي السورية، مع إرسال تهديدات إلى الحكومة السورية من أي محاولات للسيطرة على السويداء ودرعا.
التحولات الدراماتيكية في الشرق والجنوب لصالح الحكومة السورية جاءت بعد فشل المفاوضات الإسرائيلية التركية حول سورية في أذربيجان، وبعد زيارة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إلى واشنطن ولقائه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فالأطماع الإسرائيلية والتركية في الأراضي السورية ومحاولات أنقرة وتل أبيب استغلال الظروف التي تمر بها الحكومة ودعم القوى الانفصالية لم تلق استجابة من قبل القوى العظمى والمجتمع الدولي، في وقت يتحدث الجميع عن وحدة سورية وسيادتها.
وعلى الرغم من الاتفاقات التي وقعتها الحكومة السورية مع قيادة اللواء الثامن في الجنوب وقوات سورية الديمقراطية في الشرق، إلا أن حدود سيطرتها الفعلية على الأرض لم تتغير منذ يوم النصر والتحرير، ولم تدخل قوات وزارة الدفاع والأمن العام إلى مناطق الجنوب والشرق، واقتصر انتشارها وسيطرتها على دمشق وحلب وحمص وحماة والساحل. فالخارطة اليوم كما كانت قبل أشهر حيث لا تزال فصائل الجيش الحر تسيطر على المناطق الحدودية مع تركيا، وقوات سورية الديمقراطية على الجزيرة، وقوات العودة وحركة رجال الكرامة تتقاسم مع قوات الاحتلال الإسرائيلي مناطق الجنوب، مع بقاء البادية السورية منطقة مفتوحة تنتشر فيها مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم داعش، مع تمركز قوات مدعومة من الولايات المتحدة في قاعدة الضمير الجوية. ما يضع العاصمة دمشق ضمن قوس من القوات المعادية، خاصة وأن واشنطن كما يعلم الجميع تقف دائما جانب إسرائيل في كل ما تريده وتدعو إليه. وما وجود قوات تابعة لها في قاعدة الضمير سوى دليل على التوافق الأمريكي الإسرائيلي على رسم حدود نفوذ تركيا التي يعترف الجميع بعلاقاتها المتميزة والخاصة مع الحكومة السورية برئاسة الشرع الذي قام بزيارتين إلى تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية، ما يكشف عمق العلاقات بين الحكومة السورية وتركيا التي باتت تمتلك مفاتيح رئيسية ولها الأفضلية على غيرها من الدول في التصرف داخل الساحة السورية.
الوضع في سورية لا يزال يتأرجح بسبب الصراع الدولي المحتدم وتعاظم التدخلات الخارجية لكسب المزيد من النقاط والنفوذ على الساحة السورية. فيما دخلت واشنطن وموسكو اللتين تحتفظان بقوات كبيرة لهما على الأراضي السورية في مفاوضات مباشرة في الرياض حول أوكرانيا. وبدأت واشنطن وطهران مفاوضات غير مباشرة وصفها ترامب بالجيدة حول الملف النووي الإيراني في مسقط. ليبقى الملف السوري وتعقيداته رهن التطورات الدولية والإقليمية، مع الإشارة إلى الدور العربي الذي تلعبه الإمارات والسعودية لجهة تمكين الحكومة السورية ودعمها باعتبار سورية مفتاح الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها.
زيارة الرئيس الشرع إلى تركيا والإمارات فتحت آفاقا جديدة وكشفت عن توجه دولي لمساعدة سورية على تجاوز المشكلات المستعصية التي تمر بها، بانتظار نتائج المفاوضات الدولية وعلى الأخص المفاوضات بين تركيا وإسرائيل، ذلك لأن أي تطور إيجابي على هذا الصعيد ستنعكس نتائجه على الساحة السورية التي تعد منذ أربعة عشر عاما ساحة للصراع الدولي.