لا تزال أصداء التقرير الذي أصدرته اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول أحداث الساحل السوري، التي وقعت في آذار الماضي وأدت إلى آلاف الضحايا في مجازر متنقلة لم يشهد التاريخ السوري لها مثيلاً، تتردد في الأوساط السورية.
اللجنة الوطنية، التي قام بتعيين أعضائها الرئيس أحمد الشرع، أنهت تحقيقاتها وسلّمت الرئيس الشرع تقريرها بالتزامن مع أحداث السويداء الدامية، الأمر الذي كان له تأثير سلبي وإيجابي، خاصة على ذوي الضحايا. وأكدت اللجنة أنها تعرّفت على 298 متهماً بأسمائهم الصريحة، ووجّهت إليهم التهم بضلوعهم في الأحداث التي راح ضحيتها 1426 شخصاً، واعتبرت اللجنة أن هذه الأرقام أولية.
قامت اللجنة، التي يرأسها القاضي جمعة العنزي، بزيارات إلى محافظات حماة واللاذقية وطرطوس، والتقت بالعائلات واستمعت إلى مئات الشهادات من ذوي الضحايا.
وحملت اللجنة المسؤولية إلى فلول النظام السابق الذين قاموا بمحاولة انقلاب في طرطوس واللاذقية وحماة، وقتلوا في السادس من آذار بأسلحة متوسطة وخفيفة، كما أفادت اللجنة، 238 من أفراد الأمن وقوات الجيش عندما هاجموا حواجز ودوريات الجيش في تلك المحافظات. وحددت اللجنة عدداً من أفراد وعناصر وزارة الدفاع الذين يرتبطون بفصائل منفلتة، واعتبرت أن هؤلاء خالفوا الأوامر العسكرية ويشتبه بارتكابهم انتهاكات بحق المدنيين.
ومع أن تقرير لجنة تقصي الحقائق يحتوي على نقاط إيجابية، إلا أن ردود الشارع السوري تباينت حوله، خاصة وأن هذا الشارع فقد الثقة باللجان الحكومية، حيث كانت سياسة النظام السابق تعتمد على اللجان من أجل طمس الحقائق وإخفائها، بل وكانت تلك اللجان تسخر من القوانين ومن تريد السلطة محاسبته مسبقاً، فتشكل له لجنة لإخفاء كل انتهاكاته بحق الشعب السوري. ولهذا، فقدت اللجان بمختلف أشكالها وأنواعها مصداقيتها، وهذه الذاكرة الشعبية الأليمة كانت حاضرة في موضوع تقييم نتائج لجنة التحقيق، خاصة وأن هذه النتائج جاءت متزامنة مع أحداث السويداء، التي كان الهدف منها تشويه صورة السلطة في سورية على حساب إسرائيل، التي مثلت دور البطولة وهي تقصف دمشق ومناطق عديدة بحجة حماية الدروز.
ولا شك أن انعدام الثقة باللجان الوطنية دعا الكثيرين للمطالبة بلجنة تحقيق دولية مستقلة. مع الإشارة إلى أن المتحدث باسم اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول أحداث الساحل، المحامي ياسر الفرحان، أكد أن اللجنة الوطنية السورية استرشدت بآراء لجنة الأمم المتحدة المستقلة، وجرت عدة اجتماعات مع فريق الأمم المتحدة، الذي اعتبر في تعليقه على نتائج التحقيق أن تسليم التقرير إلى الرئيس الشرع خطوة أولية، وأنه لا بد من تقديم المتورطين إلى المحاكمة أمام القضاء.
كما علق البعض على نتائج التحقيق معتبراً أنه كان يجب تعيين لجنة سورية مستقلة من خارج السلطة، خاصة وأن في سورية رجال قانون وحقوق إنسان وحريات مهمين ولديهم خبرات. فيما اعتبر البعض ضرورة تطبيق مسار العدالة الانتقالية وليس العدالة الجنائية، لأن العدالة الانتقالية تتضمن المصالحة والمسامحة، بينما العدالة الجنائية قاسية. فلا أحد في سورية يريد التقسيم، ولا أحد يريد أن يقف إلى جانب الطائفية، كما أن أحداً في سورية لا يريد أن تصبح سورية كتلة أبنية من السجون والمعتقلات. فالشعب السوري يريد أن ينبذ الطائفية، ويريد التسامح والمصالحة وتخليد ذكرى الشهداء الذين ضحوا من أجل وحدة سورية وضد تقسيمها.
ويبدو أن توقيت إصدار التقرير بالتزامن مع أحداث السويداء الدامية خفف من أهمية إنجازه خلال فترة قصيرة لا تتعدى الأربعة أشهر، حيث زارت اللجنة 33 موقعاً وأجرت مقابلات ودوّنت شهادات أكثر من 900 شخص. كما أن الانطباع الذي كونه الشارع السوري بشأن خلفية الأحداث التي وقعت في الساحل السوري بكونها طائفية، أكدت اللجنة أن الدوافع ثأرية وليست أيديولوجية أو طائفية، وهذا التوصيف جعل الشارع يرتاب من حكم اللجنة، التي اكتشف بالوقائع كم يمقت السوريون الطائفية التي يستخدمها البعض لتنفيذ أجندات ومصالح خاصة. مع أن اللجنة بينت أنه ضمن الفصيل الواحد كان هناك أشخاص متهمون وآخرون أبرياء، فكان بعض أفراد هذه الفصائل المنفلتة يسفكون الدماء، بينما أفراد آخرون من نفس الفصيل يرفضون هذا العمل الشنيع. وفي ذلك إشارة إلى أن التعليمات والأوامر كانت تقضي بحماية المدنيين، وأن التصرفات كانت فردية، كما بينت اللجنة.
ومن الجدير ذكره أن الاستنتاجات التي توصلت إليها لجنة التحقيق كان لها أصداء إيجابية، خاصة وأنها تجربة جديدة في سورية، حيث يعد تشكيل لجنة وطنية وبخبرات سورية فخراً لسورية إذا ما نجحت في عملها وفق المعايير الدولية. وقد أكدت اللجنة بأن الجناة لن يفلتوا من العقاب، وهذا ينطبق على الجميع وبدون استثناء، وهذا يعزز الوحدة الوطنية ويساهم في رأب الصدع الاجتماعي الذي حدث بعد أحداث الساحل في السابع والثامن والتاسع من آذار الماضي. مع أن منطقة الساحل كانت قبل ذلك التاريخ تنعم بالسلام والاستقرار منذ انتصار الثورة في الثامن من كانون الأول الماضي.
ولا شك أن إصدار تقرير لجنة التحقيق بالتزامن مع أحداث السويداء كان مؤلماً بالنسبة للسوريين، وهم يضحون بالغالي والنفيس للمحافظة على وحدتهم وسيادتهم في مواجهة الكيان الصهيوني الذي يستغل الظروف الصعبة التي تمر بها سورية لتقسيمها وتفكيكها لدويلات طائفية تشبه الدولة العبرية، في وقت يسعى البعض للاستقواء بالخارج على حساب الوطن. ولكن في نهاية المطاف، لا يصح إلا الصحيح، وأن الثورة السورية التي قادها سلطان باشا الأطرش قبل مئة عام تحمل الاسم ذاته اليوم، وتسعى بعد انتصارها في الثامن من كانون الأول الماضي للمحافظة على وحدة سورية. وهي اليوم تواجه تحديات حقيقية في شرق البلاد وجنوبها، وستكون هذه الثورة، كما في الماضي، حامية لوحدة سورية، وتستعيد الأمن والاستقرار والسلام، لأنه غير مسموح تحت أي عنوان أو شعارات تقسيم سورية. وما أنجزته لجنة التحقيق يدعم وحدة سورية وسيادتها وأمنها، ويزرع الثقة من جديد بين السوريين… ولو أن اللجنة حاسبت ولو حتى شخص واحد على فعلته، فإنها بذلك تمنع الآخرين من الإفلات من العقاب. وفي النهاية، كما في البداية، يبقى العدل أساس الملك.
