في خضم التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، تبرز المطالب الروسية من سوريا كواحد من أكثر الملفات تعقيداً، حيث تتداخل المصالح الاستراتيجية مع حسابات إعادة الإعمار والصراع الإقليمي. وفي حديث خاص مع الإعلامي علي جمالو، تم تحليل هذه المطالب والرهانات السورية الممكنة في ظل علاقة غير متكافئة تاريخياً، لكنها تبحث اليوم عن صيغة جديدة تقوم على مبدأ “التوازن”.
يرى جمالو أن المطالب الروسية، كما يتم تداولها في وسائل الإعلام، تحمل قدراً كبيراً من المبالغة والتشويش، مؤكداً أن العلاقة بين البلدين تقوم على حاجة متبادلة: “سوريا تحتاج إلى روسيا وروسيا تحتاج إلى سوريا”. ويضرب مثلاً بملف الديون مقابل التعويضات، حيث يمكن للجانب السوري أن يفتح ملف الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية خلال سنوات الحرب، خاصة تلك المتعلقة بالمنشآت التي تديرها شركات روسية. ويشدد على أن الطرفين يسعيان لبناء علاقة متوازنة، لكن الكلمة الفاصلة في هذه المعادلة هي “هندسة المصالح” وليس التنازل من طرف واحد.
على الصعيد الأمني، تبرز القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس كأحد أكثر الملفات إثارة للجدل. ويكشف جمالو عن وجود عقود مشبوهة وقعت في ظل الظروف الاستثنائية للحرب، بما في ذلك عقود موانئ وحقول نفط وغاز، بعضها مرتبط بشركات وهمية أو شخصيات موالية للنظام السابق. ويذكر على وجه الخصوص عقد ميناء طرطوس، الذي انتقل بشكل غير مباشر إلى الإمارات عبر وساطة روسية، كمثال على ضرورة إعادة النظر في هذه الاتفاقيات. كما يسلط الضوء على حقول الفوسفات والبلوكات النفطية في البحر المتوسط، خاصة البلوك رقم 1 المتنازع عليه مع تركيا، مؤكداً أن هذه الثروات هي ملك للشعب السوري ويجب أن تخضع للمراجعة.
دولياً، تظهر روسيا كحليف ضروري لسوريا في مجلس الأمن، لكن جمالو يحذر من المبالغة في تقدير هذا الدور، مشيراً إلى أن موسكو تعاني من تبعات الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية، ما يجعلها غير قادرة على الوفاء بوعود إعادة الإعمار. ويوضح أن الدعم الروسي الحالي يتركز على إصلاح منشآت مرتبطة بمصالحها، مثل معمل الغاز في البادية السورية، الذي تكلف 800 مليون يورو ولم يكتمل بسبب الحرب.
في الإطار الإقليمي، يتناول التحليل الدور التركي كوسيط غير معلن في التقارب السوري-الروسي، حيث تمت تهيئة الزيارة الأخيرة خلال لقاء بين لافروف وفيدان في أنقرة. ويشير إلى أن تركيا أصبحت شريان حياة للاقتصاد الروسي تحت الحصار الغربي، ما يعطيها نفوذاً في الملف السوري. كما ينفي جمالو وجود أي اجتماع سوري-إسرائيلي في باكو بالتزامن مع زيارة موسكو، معتبراً أن هذه الأخبار جزء من حملة تشويش، لكنه يعترف بأن الاتصالات مع إسرائيل “أصبحت طبيعية”، رغم رفض الشارع السوري لأي تطبيع مع دولة تحتل الجولان وتستهدف البنية التحتية السورية بشكل متكرر.
ختاماً، يؤكد جمالو أن نجاح أي تفاهم مع روسيا مرهون بقدرة سوريا على المناورة بين المطالب الروسية وحقوقها السيادية، مع ضرورة استعادة الثروات المهدرة وإعادة النظر في العقود المشبوهة. ويبقى السؤال الأكبر: هل ستتمكن سوريا من تحويل هذه المرحلة إلى فرصة لتحقيق توازن دبلوماسي يحفظ مصالحها، أم ستظل ساحة لصراع القوى الكبرى؟ الإجابة ستحدد ليس فقط مستقبل العلاقة مع موسكو، بل أيضاً موقع سوريا في الخريطة الجيوسياسية الجديدة للمنطقة.