تمثل الحرب في غزة واحدة من أكثر النزاعات تعقيداً واستعصاءً على الحل في التاريخ الحديث. فبعد كل جولة عنف، تطفو على السطح تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت الحرب قد انتهت بالفعل، أم أن ما يحصل هو مجرد هدنة مؤقتة تسبق جولة جديدة من الصراع. للإجابة على هذا السؤال، يجب الغوص في أعماق الديناميكيات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تشكل واقع القطاع.من الناحية الشكلية، يمكن القول إن الحرب تنتهي عندما تتوقف العمليات العسكرية المباشرة وتعلن الأطراف وقف إطلاق النار. لكن هذا التوقف الظاهري للقتال لا يعني بالضرورة انتهاء حالة الحرب، بل قد يشكل مرحلة انتقالية في صراع ممتد. ففي حالة غزة، نجد أن الدورات المتعاقبة من التصعيد والتهدئة تشكل نمطاً واضحاً في العلاقة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة حماس. كل جولة عنف تترك وراءها دماراً هائلاً وخسائر بشرية فادحة، لكنها نادراً ما تحقق نقلة نوعية في المعادلة الجيوسياسية الكامنة.الأبعاد السياسية لانتهاء الحرب متعددة المستويات. على المستوى الداخلي الفلسطيني، تشكل كل جولة من الحرب اختباراً لموازين القوى بين فتح وحماس. فمن ناحية، تظهر حماس نفسها كقوة مقاوِمة قادرة على الصمود أمام الجيش الإسرائيلي، مما يعزز شرعيتها الشعبية على حساب السلطة الفلسطينية. لكن من ناحية أخرى، تبرز تساؤلات حول كلفة هذه المقاومة التي تدفعها القطاع بأكمله من دمار وضحايا. أما السلطة الفلسطينية فتواجه معضلة حادة: كيف تبرر تفاوضها مع إسرائيل في حين أن عملية السلام متجمدة، وفي ظل استمرار التوسع الاستيطاني؟على المستوى الإقليمي، تغيرت التحالفات بشكل ملحوظ. فمن جهة، هناك اتجاه تطبيعي بين بعض الدول العربية وإسرائيل، كما في حالة الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. لكن من جهة أخرى، تبقى القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في الخطاب الشعبي العربي، مما يحد من قدرة الحكومات على المضي قدماً في التطبيع دون تقديم تنازلات للفلسطينيين. كما أن دور مصر وقطر كوسيطين أساسيين في غزة يؤكد على الأهمية الاستراتيجية المستمرة للقضية الفلسطينية في السياسة الإقليمية.أما على المستوى الدولي، فنشهد تحولاً في الموقف الغربي، وإن كان بطيئاً. فالاتحاد الأوروبي، رغم استمرار دعمه لإسرائيل، أصبح أكثر انتقاداً للاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية. وفي الولايات المتحدة، برز تيار داخل الحزب الديمقراطي يطالب بموقف أكثر توازناً تجاه الصراع. لكن التغيير الجوهري في السياسة الأمريكية يبقى محدوداً بسبب التأثير القوي للوبي إسرائيل في واشنطن.من الناحية الاقتصادية، فإن آثار الحرب على غزة مدمرة. فالبنية التحتية التي دمرت تحتاج إلى مليارات الدولارات لإعادة بنائها، والاقتصاد المحلي المنهك أساساً بسبب الحصار المستمر منذ 2007 يعاني من انهيار شبه كامل. معدلات البطالة تتجاوز 50٪، وأكثر من 80٪ من السكان يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. إنهاء الحرب يعني فتح إمكانيات لإعادة الإعمار وتحسين الأوضاع المعيشية، لكن الواقع أكثر تعقيداً.
فإعادة إعمار غزة تتطلب رفع الحصار بشكل كامل، وهو ما ترفضه إسرائيل خشية أن تستخدم المواد الإنشائية في بناء الأنفاق والمنشآت العسكرية لحماس. كما أن التمويل الدولي لإعادة الإعمار مشروط غالباً بضمانات بعدم سقوط هذه الأموال في أيدي حماس، وهو شرط يصعب تحقياقعلى الأرض. هذا بالإضافة إلى أن الدول المانحة تعاني من “إعياء المساعدات” بعد دورات العنف المتكررة التي تدمر ما تم بناؤه.
السؤال الأهم: هل سيكون انتهاء الحرب هذه المرة لمدة طويلة؟ للإجابة على هذا، يجب النظر إلى العوامل الهيكلية التي تغذي الصراع أولاً، هناك غياب أي أفق سياسي لحل القضية الفلسطينية. فمفاوضات السلام متوقفة منذ سنوات، والتوسع الاستيطاني يستمر بوتيرة متسارعة، مما يقوض إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة. في هذا الفراغ السياسي، تزدهر الخطابات المتطرفة من الجانبين.ثانياً، الاستقطاب الحاد داخل إسرائيل بين اليمين واليسار يجعل من الصعب على أي حكومة اتخاذ خطوات جريئة نحو السلام. فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بغض النظر عن توجهها الأيديولوجي، تفضل إدارة الصراع على حله.
ثالثاً، الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة يضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني ويغذي دائرة العنف. ففي غياب استراتيجية موحدة، تفضل حماس خيار المقاومة المسلحة، بينما تفضل السلطة خيار المفاوضات، لكن دون أن يحقق أي الخيارين نتائج ملموسة للشعب الفلسطيني.
رابعاً، التحولات الجيوسياسية الإقليمية جعلت القضية الفلسطينية أحياناً رهينة في صراعات أخرى. فإيران وحلفاؤها يستخدمون القضية لتعزيز نفوذهم الإقليمي، بينما تحاول دول عربية أخرى تطوير علاقات مع إسرائيل لمواجهة النفوذ الإيراني والتركي.
في ضوء هذه العوامل، يبدو أن أي هدنة في غزة هي مجرد فترة هدوء مؤقتة قبل العاصفة المقبلة. فما لم يتم معالجة الجذور العميقة للصراع، ستستمر دورات العنف في التكرار. الحل الحقيقي يتطلب مقاربة شاملة تعالج القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية بشكل متكامل. إن انتهاء الحرب في غزة لا يقاس بوقف إطلاق النار المؤقت، بل بوجود إرادة سياسية حقيقية لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع. وهذا يتطلب ضغوطاً دولية حقيقية لإحياء عملية السلام، ووقف الاستيطان، ورفع الحصار عن غزة، ومصالحة فلسطينية فعلية. دون ذلك، ستظل غزة ساحة لحرب متقطعة لا تنتهي، تترك وراءها دماراً بشرياً ومادياً يزيد من تعقيد إمكانية تحقيق سلام عادل ودائم في المستقبل المنظور.