لا يمكن فهم ما جرى في الانتخابات البرلمانية الأوروبية إلا من منظور واحد، وهو أن أوروبا، القارة العجوز، أصبحت غير قادرة على قيادة نفسها بنفسها، وغير قادرة أيضًا على أن تبقى كتلة واحدة، تضج بالتناقضات الكبيرة بين دولها التي تتوق للسيادة الوطنية وللعودة إلى الأصول وإلى تاريخها الخاص وعاداتها الخاصة وفنها وتراثها. فلكل بلد أوروبي من البلدان الـ27 التي تشكل الاتحاد الأوروبي فنه الخاص وعاداته الخاصة وتاريخه الخاص. ولهذا فإن شعوب هذه البلدان، وهي تعيش محاسن الاتحاد والحركة المفتوحة بين الدول الأوروبية، إلا أنها لا تزال تحتفظ بشريط طويل من الذكريات التي تتعارض كليًا مع الواقع الحالي. ولهذا فإن نتائج الانتخابات التي أعطت التيار الشعبوي أو اليمين المتطرف في كل من فرنسا وألمانيا التمايز عن التيارات اليسارية والليبرالية، هي في الواقع تعكس تغييرات جوهرية في عمق القارة العجوز، تتعلق بالمخاوف المتزايدة على السيادة الوطنية. فلكل دولة أوروبية تاريخها الخاص، ومحاولات طمس هذا التاريخ وتذويبه في بوتقة ما يسمى الاتحاد الأوروبي ربما تنجح على صعيد التعاون الاقتصادي، لكنها لن تنجح على الصعيد الثقافي والسياسي والفني والأيديولوجي. فالهوية الوطنية لها الأولوية، خاصة بعد فوز ترامب الشعبوي في الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي مكان ما يمكننا القول إن أوروبا تسير على منهاج أمريكا. وهي ترى أن التغيير في أمريكا واسع وكبير داخل الحزب الجمهوري، حيث يعبر ترامب عن ظاهرة جديدة يطلق عليها اليمين المتطرف أو التيار الشعبوي، وربما تحاول أوروبا اللحاق بهذا التيار الذي قد يجنب العالم حربًا عالمية ثالثة، لأن الانطواء على الذات من شأنه أن يقلل من فرص الحرب مع الآخرين. كما يحصل اليوم، حيث ترفض إدارة بايدن ومعها الاتحاد الأوروبي بقياداته وحكوماته الليبرالية واليسارية والاشتراكية وقف الحرب في أوكرانيا، وتعمل على منع عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا، وتستخدم ورقة اللاجئين لتحقيق أجنداتها وأهدافها السياسية.
فيما يدعو ترامب الشعبوي، والذي يشكل أقصى اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري الأمريكي، إلى وقف الحرب في أوكرانيا، ويقول: إذا فزت بالانتخابات سأعمل على وقف الحرب خلال أربع وعشرين ساعة.
نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي فاز فيها اليمين المتطرف أثارت عاصفة سياسية في أوروبا، وبخاصة في فرنسا وألمانيا. وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إثرها حل الجمعية الوطنية ودعا إلى انتخابات برلمانية مبكرة. أما في ألمانيا فقد حصل حزب البديل من أجل ألمانيا على المرتبة الثانية متقدمًا على الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يترأسه المستشار أولاف شولتز.
هذه النتائج أثارت موجة من ردود الفعل والتعليقات والتحليلات حول العوامل التي أدت إلى صعود اليمين المتطرف أو الشعبوي ودور المهاجرين الذين يواصلون التدفق إلى أوروبا بكثافة وسط تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تغذيها تيارات دينية وجماعات وأحزاب سياسية تنظر إلى المهاجرين وإلى الإسلام والمسلمين على أنهم يشكلون خطرًا على أوروبا ومستقبلها وتجانسها وحضارتها.
ونتيجة لهذه التغيرات المجتمعية الداخلية العميقة والجوهرية في أوروبا، فإن المأمول أن تنعكس نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي لاختيار 722 عضوًا هم الذين يقررون استراتيجيات الاتحاد وسياساته تجاه الدول والأزمات، بشكل إيجابي على الأوضاع الدولية السائدة وعلى الأزمة المستمرة في سوريا، خاصة وأن الانقسامات في أوروبا حول سوريا واسعة وكبيرة. وأعلنت ثمانية دول أوروبية هي النمسا وجمهورية التشيك وقبرص والدنمارك واليونان وإيطاليا ومالطا معارضتها لقرار المؤتمر الدولي الثامن للمانحين حول سوريا، والذي انعقد في بروكسل بدون حضور سوريا، وأعلن بكل وضوح معارضته لفكرة عودة اللاجئين السوريين في العشرين من مايو الماضي. ولكن الدول الثمانية عارضت القرار ولم تستطع إيقافه أو تغييره. وأكدت هذه الدول التي تتوق للاستقلال في قراراتها عن الاتحاد الأوروبي أن مسألة عودة اللاجئين السوريين ممكنة والظروف السياسية في سوريا تسمح بذلك، خاصة وأن الحكومة السورية أعلنت مرارًا وتكرارًا أن مسألة عودة اللاجئين قضية وطنية ولها الأولوية في عمل الحكومة السورية التي تقدم كل المستلزمات التي تكفل عودة كريمة وآمنة لكل مهاجر أو لاجئ يرغب بالعودة إلى أرض الوطن. وقد أصدر السيد الرئيس بشار الأسد عددًا من مراسيم العفو المتتالية لتشجيع عودة هؤلاء المهجرين إلى منازلهم ومناطقهم التي هجَّرهم الإرهاب منها. وهذا الموقف يتعارض كليًا مع موقف الولايات المتحدة وإدارة بايدن والإدارة الفرنسية برئاسة ماكرون وألمانيا وبريطانيا. فهذه الدول تشكل رأس حربة ضد سوريا وهي الدول التي دعمت الإرهاب بالمال والسلاح والمرتزقة، وتعمل اليوم لتسييس الوضع الإنساني ولمنع عودة اللاجئين وإطالة أمد الأزمة عبر تخويف اللاجئين من العودة ومواصلة دعم تنظيم داعش الإرهابي في سوريا.
ولهذا نقول رب ضارة نافعة، إن اجتياح اليمين المتطرف للانتخابات في البرلمان الأوروبي إشارة إلى أن الخارطة السياسية لأوروبا ستشهد تغييرات كبرى على المديين القريب والمتوسط، وأن الانتخابات الفرنسية القادمة والانتخابات العامة في معظم الدول الأوروبية ستكون فرصة لقلب الطاولة على البنية القائمة المهترئة والتي فشلت في معالجة الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم نتيجة إصرار أمريكا على فرض عقوبات أحادية وإصرارها على تأجيج الحروب وإشعال الأزمات في كل أنحاء العالم. ولا شك أن احتمالات قلب الطاولة على اليسار والاشتراكيين والليبراليين الذين يحكمون أوروبا منذ عقود أمر وارد في ظل التململ الأوروبي من طغيان قرارات بروكسل الأمريكية الصنع على القرارات الوطنية التي يطالب اليمين المتطرف باستعادتها وبالدفاع عنها ضد الأجانب، بعد عقود من قيام الاتحاد الأوروبي بوضع كل البيض في السلة الأمريكية ورهن أوروبا وتاريخها ودورها سياسيًا واقتصاديًا لخدمة مصالح أمريكا وهيمنتها، الأمر الذي يعرض أمن أوروبا للخطر في ضوء اندفاع واشنطن وإدارة جو بايدن على مواصلة الحرب ضد روسيا في أوكرانيا ودعم الإرهاب ونهب الثروات في سوريا ومواصلة احتلال أجزاء من الأراضي السورية ونهب الثروات واعتماد شعار فرق تسد ودعم الإرهاب والانفصاليين.
فوز اليمين المتطرف في الدول الأوروبية، وبخاصة في ألمانيا وفرنسا، لا يعني بالضرورة إعادة العلاقات مع دمشق ولا يعني طرد المهاجرين السوريين الذين يُقدر عددهم بمليون مهاجر في ألمانيا وحدها. ولكن نتائج الانتخابات مؤشر واضح على عمق الأزمات الداخلية التي تواجهها الدول الأوروبية في وقت يعاني المهاجرون من صعوبات حقيقية في الحصول على إقامة دائمة والتكيف مع العادات والتقاليد الغربية، عدا عن تنامي النزعة العنصرية ضد هؤلاء المهاجرين. ومن غير المستبعد أن يلجأ اليمين المتطرف، في حال فوزه في السنوات القادمة في الانتخابات في أوروبا، إلى إعادة هؤلاء المهاجرين أو اللاجئين حتى الناجحين منهم والذين استطاعوا أن يندمجوا مع مجتمعاتهم الجديدة. فالتيارات الشعبوية تحمل في ذاتها ومكنوناتها نزعة أصولية، وهذا نلمسه في الشرق في الهند، فقد عاد فيها الحزب القومي الهندوسي “بهاراتيا جاناتا” بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى السلطة، ونلمسه في الغرب في الولايات المتحدة الأمريكية مع ترامب، والذي يدعو في خطابه التحريضي، مثل المتطرفين في أوروبا، إلى طرد المهاجرين ورفع شعارات أصولية مثل “أمريكا أولًا”.