الرئيس الأسد يرد بالإيجاب على دعوة أردوغان ويؤكد أن لديه متطلبات تقتضي الانسحاب ووقف دعم الإرهاب، وليس شروطاً أو مطالب. الاجتماع الأمني بين سورية وتركيا قريبا في بغداد، كخطوة أولى لدفع مسيرة التقارب بين البلدين.
بعد التصريحات والعروض التركية التي توالت خلال الأسابيع الماضية على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان حول رغبة أنقرة في إعادة العلاقات مع دمشق وتوق أردوغان للقاء الرئيس بشار الأسد ودعوته خلال مشاركته في قمة الناتو في واشنطن لزيارة أنقرة، جاء الرد السوري على هذه العروض من الرئيس الأسد خلال الإدلاء بصوته في الانتخابات التشريعية في أحد مراكز الاقتراع بدمشق في الخامس عشر من تموز الجاري. كان الرد واضحاً ومنطقياً، مبنياً على أساس الحقوق السورية والمبادئ والمعايير الوطنية. قال الرئيس الأسد إنه ليس لسورية شروط للتقارب مع تركيا وإعادة العلاقات كما كانت في العام 2011، بل وأفضل مما كانت عليه. وأضاف: “نحن إيجابيون تجاه أي مبادرة لتحسين العلاقة وهذا هو الشيء الطبيعي. لا أحد يفكر بأن يخلق مشاكل مع جيرانه، ولكن هذا لا يعني أن نذهب من دون قواعد.”
وأكد الرئيس الأسد أن سورية لا تضع شروطاً أو مطالباً، وإنما لديها متطلبات محددة ومعروفة لدى الجميع تفرضها طبيعة العلاقات بين الدول ويعبر عنها القانون الدولي. وتساءل: “إذا أردنا أن نصل لعلاقات طبيعية، فهل يمكن أن يكون الاحتلال جزءاً من العلاقات الطبيعية بين الدول؟ هل من الممكن أن يكون دعم الإرهاب جزءاً من العلاقات الطبيعية بين الدول؟” وأجاب: “هذا مستحيل.”
في كل إجابات الرئيس الأسد كانت مسألة الاحتلال التركي لأجزاء من الأراضي السورية هاجسه الأكبر. وحتى الرئيس بوتين عندما التقى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قبل قرابة الشهرين في موسكو، أكد له أن انسحاب القوات التركية ليس شرطاً، وإنما هو مطلب وطني سوري. إذ أن سحب القوات التركية من الأراضي السورية ووقف دعم وتمويل وحماية الجماعات الإرهابية هو أول العوامل التي ينبغي على أنقرة أن تتعهد بها رسمياً حتى تكون اللقاءات فيما بعد حول جدولة الانسحاب وتنسيقه مع الجيش العربي السوري وسبل التعاون لإنهاء الوجود الإرهابي في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية، وضبط أمن الحدود، ومنع أية تهديدات عبر الحدود المشتركة ووقف تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود.
لابد من الإشارة إلى أن إعلان أردوغان خلال قمة الناتو عن رغبته بلقاء الأسد يشير إلى أن واشنطن تغض الطرف عن هذا التقارب التركي السوري ومعها بطبيعة الحال أوروبا التي تحاول الكثير من دولها إعادة العلاقات مع سورية. زيارة وزير الخارجية التشيكي إلى دمشق، وهي أول زيارة لمسؤول أوروبي، دليل على رغبة أوروبا في تغيير مواقفها، أسوة بالجامعة العربية التي أعادت علاقاتها مع سورية قبل عام. وليست أمريكا بحالة شاذة، رغم أنها كانت تقود من الخلف الحرب على سورية، وهي اليوم تروج لاحتمال انسحابها قريباً من سورية والعراق. هذا ما قاله السيناتور عن ولاية أوهايو جيمس ديفيد فانس الذي رشحه ترامب لمنصب نائب الرئيس خلال مؤتمر الحزب الجمهوري، وهو يعارض الحرب في أوكرانيا ويدعو إلى سحب القوات الأمريكية من سورية.
اللافت أن الموقف الذي أعلنه الرئيس الأسد من موضوع اللقاء مع أردوغان، رغم وضوحه، التبس على وسائل الإعلام وراحت كل وسيلة تفسره وفق ميولها ومصالحها. ولكن لابد من الإشارة إلى أن الرئيس الأسد ما كان ليدلي بهذه التصريحات لو لم تكن الوساطة الروسية لإعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق قد فعلت فعلها واقترب موسم القطاف. وقد اقتربت من النضوج، ومن الطبيعي أن تؤتي ثمارها قبل نهاية الصيف وقبل موعد الانتخابات الأمريكية. إذ أن الرئيس بوتين كان دائماً، ومنذ خمس سنوات، يواجه مشكلة مع حليفيه الأسد وأردوغان، “الأخوة الأعداء”، ولكنه لم يكل ولم يمل من إصلاح ذات البين بينهما، مستفيداً من الصداقة القديمة التي تربط بينهما قبل أن يغدر أردوغان بالصداقة ويختار طريقاً آخر، هو طريق الإرهاب والقتل، ويشارك بشكل فعلي في تدمير سورية ويفتح الباب لمجاميع الإرهابيين لمهاجمة سورية وشعبها وجيشها ومؤسساتها.
كانت مهمة الرئيس بوتين صعبة لكسر الجمود المستحكم بين الرئيسين، إذ أن الرئيس الأسد يعتبر أن المسألة ليست تبويس لحى، وإنما لابد من ضمانات وإزالة أسباب الخلاف وعدم تكراره، خاصة وأن المعارضة التركية كانت تعارض سياسات أردوغان، لأن الشعبين السوري والتركي كانا قبل الأزمة يعيشان وكأنهما في بلد واحد، قبل أن يغير أردوغان موقفه ويقلب الطاولة ويعادي سورية والرئيس الأسد بشكل شخصي، ويسخر كل إمكانات تركيا وثقلها السياسي والاقتصادي وموقعها الجغرافي وإعلامها وجيشها من أجل إسقاط النظام في سورية. ولهذا فإن مطالبة سورية بضمانات حقيقية لإعادة العلاقات مع تركيا يعد أمراً طبيعياً بالنظر إلى التجربة المريرة التي خاضتها سورية بسبب الغدر الذي تعرض له الرئيس الأسد في العام 2011.
إن جميع الأطراف يعدون الساعات والأيام بانتظار ما سيسفر عنه اللقاء الأمني الذي تنظمه بغداد بين وفدي سورية وتركيا. وقد ذكرت مصادر إعلامية أن الاجتماع المنتظر سيكون في العاصمة العراقية بغداد، وأنه سيكون الخطوة الأولى في عملية تفاوض طويلة قد تفضي إلى تفاهمات سياسية وميدانية. مع الإشارة إلى أن الجانب التركي كان قد طلب من موسكو وبغداد أن يجلس على طاولة حوار ثنائية مع الجانب السوري، من دون طرف ثالث وبعيداً عن الإعلام؛ للبحث في كل التفاصيل التي من المفترض أن تعيد العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها.
يبدو أن أردوغان يريد أن تكون المفاوضات ثنائية بين تركيا وسورية وبينه وبين الرئيس الأسد، متجاهلاً استحالة عقد مثل هذه المفاوضات دون طرف ثالث. وربما كان دخول السعودية عاملاً مشجعاً لأردوغان لتسريع المصالحة السورية التركية في مقابل وجود حلفاء أقوياء وأوفياء لسورية، مثل روسيا وإيران والعراق، من أجل تسريع عقد اللقاء بين الأسد وأردوغان، وبذلك تتويج الجهود الكبيرة التي بذلتها روسيا، وخاصة الرئيس بوتين منذ سنوات، رغم الانشغال بالوضع في أوكرانيا. إذ تعتبر موسكو أن المصلحة الكبرى للدول الثلاث تكمن في إتمام المصالحة بأسرع وقت. ولا ننسى أن السعودية أيضاً لها دور في الوساطة بين دمشق وأنقرة، وزيارة وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان للقاء نظيره التركي هاكان فيدان كانت لمباركة التقارب بين سورية وتركيا، رغم أن الوضع في غزة وحرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل طغت على المؤتمر الصحفي بين الوزيرين. ومن البديهي أن المصالحة السورية التركية تخدم السعودية سياسياً واقتصادياً، وتؤدي إلى سريان شريان التجارة بين أنقرة والرياض عبر الأراضي السورية، وصولاً إلى تحالف ثلاثي سوري تركي سعودي تشجعه روسيا وإيران والصين في مواجهة الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة.
التعقيدات في موضوع العلاقات السورية التركية كبيرة ومتعددة، ولكن وجود أطراف فاعلة وقوية وإرادة صادقة يمكن أن يقرب البعيد ويختصر المسافات. روسيا كانت خلال السنوات الماضية تبني بدون ضجيج إعلامي وترسم الخرائط لحين وصولها إلى معرفة لب المشكلة، وهي الاحتلال. باتت تدرك أن جوهر الحل وأساسه ومنطلقه هو إزالة الاحتلال. هذا أمر تعمل عليه كل الأطراف وأصبح من المسلمات. كما أن اجتماعات أستانا الواحد والعشرين نصت على احترام سيادة سورية وعدم التدخل في شؤونها، وهذا ما أعلنه أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان. ولكن سورية تريد أن يكون ذلك مكتوباً ومضموناً من قبل روسيا وإيران والعراق والسعودية، خاصة وأنها تفاوض منذ أكثر من عام على مستوى وزراء الدفاع والخارجية بلا غرور، كما قال الرئيس الأسد، ومن موقع قوة لا ضعف، وانتصار لا هزيمة، وإرادة لا خوف. ورغم هذه الروح المتوثبة لسورية، فإنها تصر على ضمانات أكيدة للانسحاب ووقف الإرهاب قبل أن تمضي بعقد لقاء القمة.
لقاء الرئيس الأسد وأردوغان أصبح أمراً طبيعياً ولا عودة إلى الوراء بعد كل الاجتماعات والاتصالات، وبعد أن امتلأت محطات العالم وقنواته ووسائل التواصل بالحديث عن هذا الأمر. يبقى أن تنجز الدول التي تقوم بالوساطة، وهي روسيا والعراق والسعودية وإيران، كل دولة ما عليها من أجل أن تجتمع كل هذه الإرادات الخيرة عند نقطة واحدة، لإلزام تركيا بتنفيذ وعودها والانسحاب من الأراضي السورية وتحديد جداول زمنية بالانسحاب، ونشر الجيش العربي السوري على كامل الحدود. تعلم الحكومة التركية أن مصلحة الشعب التركي على المدى القريب والبعيد تكمن في علاقات طيبة وحسن جوار مع سورية، وهي مصلحة سورية أيضاً. ينبغي أن يتم العمل عليها بجدية وصدق، وأن يتم إبعادها عن الحسابات الشخصية والحزبية الضيقة.
سورية تعرف نفسها جيداً ويعرفها الآخرون أيضاً أنها تفي بوعودها. لقد بنت على مدار عقود مصداقية دولية بأنها عند كلمتها، لا تتأخر عن تنفيذ التزام ولا تتباطأ عن نجدة جار. لم تكن السبب في القطيعة مع الجارة تركيا ولم تكن المعتدية، وإنما السياسات والممارسات التي ارتكبها النظام التركي، سواء ما يتعلق منها بالتدخل في الشأن الداخلي السوري واحتلال مناطق من الشمال الغربي ودعم الإرهابيين فيها، هي السبب. ينبغي لهذه الأسباب أن تزال كي يكون الحوار ناجحاً والعلاقات طبيعية بين البلدين.
الجغرافيا باقية ولن تتغير، والشعوب باقية. أردوغان، رغم كل ما فعله، لن يستطيع أن يلغي التاريخ والجغرافيا والأخوة بين الشعبين الجارين، رغم تستره باللاجئين لإخفاء جريمته بحق السوريين، مع أنه بنى المخيمات قبل أن تبدأ الحرب الإرهابية على سورية. اليوم، أردوغان أحوج ما يكون للعلاقة مع سورية من أجل فتح الحدود مع العالم العربي لإدخال البضائع وليس الإرهابيين. هي مغلقة منذ 13 عاماً، ومن مصلحة تركيا عودة العلاقات لأن الإرهاب يهدد أمنها القومي ووحدتها، كما يهدد سورية.
يحيى كوسا
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط