يُقوّض صعود الشعبوية ثنائية اليمين واليسار التي استقر عليها الاجتماع السياسي كجناحين للدولة، والتي طَبعت الحياة البرلمانية في الغرب (الليبرالي) خلال القرنين الماضيين، وارتبطت تاريخياً بتداول السلطة وتجميد الصراع الطبقي
بين يومي 6 و9 حزيران الماضي، جرت في دول الاتحاد الأوروبي انتخابات البرلمان الأوروبي. وقد حقق اليمين المتطرف في معظم دول أوروبا نتائج غير مسبوقة، بلغت 27% من أصوات المقترعين، واستحوذ على رُبع مقاعد البرلمان (720 عضواً).
حقق اليمين الأوروبي المتطرف، وخصوصاً في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا والنمسا، تقدّماً سياسيّاً يهدد صيغة التوازن التي قام عليها الاتّحاد الأوروبي وثنائية يمين الوسط والاشتراكيين الديمقراطيين القائمة منذ بدايته.
جاء ذلك نتيجة تصويت الناخبين عقابياً ضد الحكومات والأحزاب الحاكمة، واحتجاجاً على إفلاس سياساتها الاجتماعية الاقتصادية وإدارتها للشأن العام، وخضوعها للسيطرة الأميركية في إدارة الأمن الأوروبي والأزمات الخارجية، وخصوصاً حرب أوكرانيا وتداعياتها الأمنية والاقتصادية.
يأتي صعود اليمين الأوروبي المتطرف في سياق حملة عنصرية من العداء للهجرة والمهاجرين، و”إسلاموفوبيا” انتعشت كرد فعل على الاحتجاجات السلمية في عواصم ومدن أوروبا ضد الإبادة الإسرائيلية لشعب فلسطين. كذلك، نكصت أوساط اجتماعيّة وازنة عن التصويت في الانتخابات يأساً من جدوى الحياة السياسية أو إحباطاً من عجز أحزابها وعبثية سياساتها وضيق آفاقها.
تحت قبة البرلمان، لن يكون اليمين المتطرف موحداً في كتلة برلمانية واحدة، فهناك بينهم مجموعتان أو اتجاهان متمايزان:
– أحدهما يتبنى نزعات قومية متطرفة في تركيزه على هاجس الهوية السيادية والخصوصية الحضارية ورفض الديمقراطية الليبرالية، وهؤلاء شكلوا مجموعة “الهوية والديمقراطية”.
– الآخر يعتمد قيمَ الليبرالية المحافِظة ضمن النسق الأوروبي العام، وهؤلاء شكلوا مجموعة “المحافظين والإصلاحيين”.
رغم بقاء البرلمان الأوروبي تحت سيطرة ائتلاف يمين الوسط والاشتراكيين الديمقراطيين والنيوليبراليين، فإنه لم يكن بحاجة إلى اليمين الراديكالي ليتخذ قرارات متطرفة وغير عقلانية. ويبدو أن عدوى الشعبوية والتطرف أصابت المركز الحيوي للسياسة الأوروبية وتياراتها الرئيسة!
في أول عمل رسمي له، تعهد برلمان أوروبا الجديد في 17 تموز الماضي بدعم أوكرانيا عسكرياً حتى استعادة جميع أراضيها المحتلة. ويدعو قرار البرلمان “بقوة لإزالة القيود المفروضة على استخدام أنظمة الأسلحة الغربية لدى أوكرانيا ضد أهداف عسكرية على الأراضي الروسية”. كما يدعو القرار جميع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي إلى تخصيص 0.25 بالمئة من ناتجها الاقتصادي بشكل دائم لإعادة تسليح أوكرانيا (وزيادة ميزانياتها العسكرية)، وتدريب قوات أوكرانية أكثر و”تعزيز” صناعتها العسكرية. كذلك، يؤيد القرار “مساراً لا رجعة فيه لأوكرانيا نحو عضوية حلف الأطلسي”.
ويبدو أن الأوروبيين، وفق العبارة الفرنسية الشهيرة حول حكم عائلة آل بوربون الملكية، كأنهم “لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً” من صراعاتهم الجيوسياسية الكارثية العقيمة، فقد كان يمكن تجنب أهوال الصراع وأكلافه الباهظة لو اختارت أوروبا العقلانية والدبلوماسية، ورفضت مبدئياً دخول أوكرانيا حلف الأطلسي، لكنها الهيمنة الأميركية الكامنة وراء اضطراب وهشاشة الحالة الأوروبية.
الأمر الأخطر أن كل ذلك يحدث في ظل حالة ارتباك تمر بها قيادة الاتحاد الأوروبي، أي ألمانيا وفرنسا، ما يثير الشك في تماسك السياسة الأوروبيّة بعدما كانت هذه القيادة إطاراً ناجحاً لفترة الازدهار والنمو.
ومنذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تشهد علاقتهما اضطراباً تفاقم بعد اندلاع أزمة أوكرانيا. لقد تخلى الاتحاد الأوروبي عن أي ادعاء بالدفاع عن مصالح أوروبا، وقطع نفسه عن الطاقة والتجارة مع روسيا وفرض عقوبات اقتصادية فادحة على نفسه!
أما روسيا، على خلفية كل هذه المشاكل، تبدو مستقرة وقوية، والشعب يلتف حول السلطات ضد كل التهديدات القادمة من الغرب الإجرامي، الذي كان يأمل في فرض عقوبات لتدمير روسيا. ونتيجة لذلك فإن الغرب نفسه يتجه نحو الانهيار.