إيران تتصدى للعدوان وتهضم الهجوم الإسرائيلي المحدود، وروسيا تكثف جهودها للمساهمة في خفض التوترات في المنطقة ووقف إطلاق النار في غزة ولبنان، وحل الأزمة دبلوماسيا.
لم يكن الهجوم العسكري الإسرائيلي على إيران محدودا قياسا بحجم التهديدات الإسرائيلية والضخ الإعلامي الذي سبقه إلا إشارة إلى الضغوط التي سعت إليها دول العالم لكي لا تنزلق الأحداث إلى حرب شاملة. العالم يخاف من الحرب الكبرى التي قد يكون الشرق الأوسط مفتاح نيرانها الشاسعة. وإلا، ماذا يعني أن تقوم الولايات المتحدة بطمأنة إيران بأن الضربات الإسرائيلية لن تكون بالحجم الذي يدفعها إلى الرد؟ وماذا يعني أن تقوم إسرائيل نفسها بإرسال رسائل غير مباشرة إلى طهران عبر وسطاء آخرين تعلمها بحجم الضربات وربما أماكنها؟
ماذا يعني أن تعلن أكثر دول الخليج العربي معارضتها للضربة الإسرائيلية على طهران خشية التصعيد واندلاع حريق واسع يطال منابع النفط وممرات الحاملات المتوجهة إلى العالم؟ كل ذلك يؤكد أن العالم لا يريد تفجر الحرب الكبرى، وكان ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر حريصا على هذه الرؤية عندما حذر من مخاطر الإخلال بالتوازن العالمي لكي لا تندفع الصين وإيران نحو روسيا لتشكيل حلف عسكري في وجه أوروبا والولايات المتحدة، ومن تلك المخاوف تنبأ بحرب عالمية ثالثة.
إن استمرار الحرب في أوكرانيا وتفاقم الحرب الإسرائيلية على دول المنطقة جعل العالم كله على حافة الهاوية، وكانت تحذيرات قمة البريكس مؤشرا على ذلك. وهنا من الضروري الإشارة إلى أن الهجمات الأخيرة الموجعة التي وجهتها المقاومة اللبنانية والفلسطينية إلى إسرائيل وأدت إلى مقتل وإصابة عشرات الجنود الإسرائيليين والآثار التي تركتها في الداخل الإسرائيلي جعلت الحكومة الإسرائيلية تنصت إلى مخاطر القادم عليها وعلى مشروعها.
إذن، ما الذي سيجري فيما بعد؟ وهل ستتوقف الحرب على لبنان وغزة أم أن الميدان سيبقى هو الحسم كما تنبأ السيد حسن نصر الله؟ والسؤال، هل هناك معطيات جديدة على الجبهة الشمالية؟ هناك موقف روسي يفرض إيقاعه على ساحة الشرق الأوسط. فروسيا التي تخوض حربا مع أوكرانيا والناتو لم تكن بعيدة في أي وقت عن الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، خاصة وأن العالم أصبح يدرك أن الولايات المتحدة شريكة مباشرة في جرائم إسرائيل، وأن كيان الاحتلال لا يمكنه القيام بأي عدوان دون موافقة الولايات المتحدة والغرب. لهذا، تأخذ الاصطفافات الدولية اليوم أبعادا سياسية وعسكرية أكثر من السابق في ظل انعدام الحوار بين موسكو وواشنطن.
يمكن أن نفهم الرسائل التي وجهتها روسيا خلال الأسابيع الماضية والتحذيرات التي أطلقها الرئيس بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف من خطورة التصعيد وتوسيع الحرب ضد إيران والعدوان على دول المنطقة. التحركات الروسية النشطة ساهمت إلى حد كبير في ضبط إيقاع الرد الإسرائيلي على إيران، الذي جاء محدودا ومتزامنا مع أعياد يهودية بعد أربع وعشرين ساعة من زيارة الوفد الروسي إلى كيان الاحتلال. مع الإشارة إلى أن إسرائيل، التي ترتكب الجرائم ضد الفلسطينيين، تقف أيضا مع النازيين الجدد في أوكرانيا ضد روسيا وتقدم لنظام كييف الأسلحة، وفي نفس الوقت، توجه هذه الحكومة المتطرفة انتقادات لموسكو بسبب تعاونها الوثيق مع طهران.
ومع أنه لم تصدر أي نتائج حتى الآن حول الاتصالات الروسية مع أطراف الصراع، تواصل روسيا جهودها من أجل المساهمة في تخفيف التوترات في المنطقة والتوصل إلى صفقة بين إسرائيل وحماس. من المؤكد أن أصداء هذه التحركات والتحذيرات الروسية انعكست بشكل إيجابي داخل قمة البريكس وعلى ساحة الشرق الأوسط، حيث أدانت جميع الدول في المنطقة العدوان على إيران، وبخاصة السعودية والإمارات.
يعد التحرك الروسي حافزا لإنجاح المفاوضات بشأن التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى، خصوصا وأن موسكو باتت بسياساتها المتوازنة والموضوعية تحظى بمصداقية كاملة لدى دول وشعوب المنطقة، ولديها علاقات قوية مع كافة الأطراف، وهي تحافظ على موقف تقليدي داعم لحقوق الشعب الفلسطيني منذ فترة الحرب الباردة. كانت مواقفها خلال العام الفائت في مجلس الأمن الدولي تشهد على ذلك، على عكس الدول الغربية التي وقفت إلى جانب كيان الاحتلال تدعمه سياسيا وعسكريا واقتصاديا وتشاركه جرائم العدوان على إيران والقتل والتهجير الجماعي لسكان غزة والضاحية الجنوبية لبيروت.
أسئلة كثيرة لا تزال تحتاج إلى إجابات، فالمواقف التي صدرت عن إيران وكيان الاحتلال والولايات المتحدة والدول العربية هي ردود فعل على العدوان الإسرائيلي على إيران. من الصعوبة الاطمئنان بأن مرحلة التصعيد قد انتهت طالما بقيت الحرب مشتعلة في المنطقة، والتي يوقد نارها كلما هدأت رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. فهل ستغير الوساطة الروسية الجدية والفاعلة مجرى الأحداث وتتمكن موسكو من فرض إيقاعات جديدة أساسها السلام والتعاون في المنطقة بدلا من الحروب والأزمات؟
يحيى كوسا