مهمة الرئيس السوري أحمد الشرع في تحقيق التوازن في العلاقات السورية مع كل من تركيا والسعودية مهمة صعبة، بالنظر إلى الأدوار التي تلعبها كل من الرياض وأنقرة كحليفين كبيرين في المنطقة للولايات المتحدة الأمريكية، عدا عن اختلاف المواضيع والملفات التي بحثها الشرع في الرياض مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن تلك التي تناولتها المباحثات في أنقرة مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان.
فتركيا التي تضع كل ثقلها للتنسيق مع سورية في ملفي قسد واللاجئين، تسعى برئاسة رجب طيب أردوغان لإشراك القيادة السورية الجديدة في استراتيجيتها للقضاء على قسد عسكريا في حال وصلت المفاوضات الثلاثية السورية التركية الأمريكية والمفاوضات بين قسد ووزارة الدفاع السورية إلى طريق مسدود، خاصة بعد أن منعت القوات الأمريكية تقدم الفصائل المسلحة باتجاه مناطق قسد وقصفت هذه الفصائل في منطقة سد تشرين بريف الرقة، وذلك على إيقاع تهديدات الرئيس أردوغان لقسد بالموت أو إلقاء السلاح باعتبارها جزءا من حزب العمال الكردستاني الإرهابي…
في الشكل والمضمون، تسعى تركيا لإشراك الحكومة السورية الجديدة في مشاريعها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، وقد أظهرت اهتماما واسعا بزيارة الشرع الاستثنائية وهي الأولى لرئيس سوري منذ 15 عامًا، وتعاملت أنقرة مع الشرع كرئيس شرعي لسورية وعلقت لافتات في شوارعها ترحب بزيارته. ومن ناحية المضمون، ناقش الرئيسان الشرع وأردوغان ملفات عديدة من بينها توسيع التواجد العسكري التركي وإقامة قواعد دائمة في سورية والتعاون بين الجيشين السوري والتركي… فزيارة الشرع إلى أنقرة سبقتها زيارة وفد عسكري تركي إلى سورية، كما زار العاصمة السورية وزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن، وبدا من خلال هذه اللقاءات والزيارات أن تركيا تتصرف وكأن سورية أضحت جزءا لا يتجزأ من استراتيجيتها لإعادة رسم خارطة المنطقة، خاصة بعد الدور التركي الحاسم في التطورات بعد الثامن من كانون الأول 2024 ودخول هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة قبل حلها ودمجها في جيش وطني العاصمة دمشق وسقوط نظام الأسد…
وبطبيعة الحال، ملف اللاجئين والاقتصاد كانا حاضرين في محادثات الرئيسين أردوغان والشرع، واللذين أكدا على إقامة علاقات استراتيجية بين البلدين، إلا أن تركيا التي طالما كانت تطمع بالأراضي السورية فإنها اليوم ترمي بكل ثقلها الاقتصادي للسيطرة على الأسواق السورية، وقد تحولت شوارع العاصمة دمشق والمدن الأخرى إلى مراكز كبيرة لعرض المنتجات التركية، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على حركة التجارة الداخلية بسبب انخفاض أسعار المواد التركية قياسًا بالمنتجات السورية المشابهة.
وفي ضوء هذا الواقع الجديد، فإن تركيا تقطف الثمار لموقفها الداعم للثورة السورية، فيما تفتقر الدول العربية إلى المنافسة مع الدور التركي، غير أن توزيع الأدوار أمر ممكن حيث تتولى الدول الخليجية دعم الاقتصاد السوري وتسويق الموقف السوري في المحافل الدولية كما حصل في مؤتمر دافوس الأخير في سويسرا، في وقت تضع تركيا نصب عينيها الاستثمار في الساحة السورية وبخاصة في الغاز المكتشف على الساحل السوري.
ويبدو جليا أن التأثير التركي والنفوذ الكبير لتركيا على الساحة السورية هو أكبر بكثير من التأثير والنفوذ السعودي، لوجود تواجد عسكري على الأرض عدا عن وجود حدود مشتركة بطول 930 كم، ولكن هذا لم يقلل من أهمية الدور السعودي المرتقب، وقد أبدى الرئيس السوري أحمد الشرع إعجابه الشديد بمشروع رؤية محمد بن سلمان 2030 وهي رؤية شاملة أساسها التعاون الاقتصادي ودعم سورية في إعادة الإعمار والاستثمارات في مجالات الطاقة والتقانة والصحة والتعليم، كما قال إنه يشعر بالهوى تجاه السعودية التي ولد فيها، وهذه إشارة إلى أن الملف الاقتصادي والدعم السعودي لسورية كان من أهم الملفات التي بحثها الرئيس الشرع مع ولي العهد السعودي.
ورغم عدم صدور بيان مشترك، فقد حرصت المملكة على إصدار بيان خاص بها حول الزيارة يؤكد الاعتراف بحكومة الشرع الجديدة، وهذا بيت القصيد بالنسبة للشرع، كما طالبت برفع العقوبات عن سورية وإقامة جسر جوي وبري لنقل المساعدات الإنسانية إلى سورية التي تعيش حالة مزرية جراء الحرب الطويلة التي عصفت بالبلاد… كما أن السعودية تدعم توجه الحكومة السورية للاعتماد على الكفاءات بدلًا من الأيديولوجيا والأحزاب السياسية، وتدفع باتجاه قيام حكومة سورية مدنية لا تكون إسلامية بحتة متطرفة ولا علمانية كاملة، وهذا الأمر يمكن أن يرضي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اللتين تريدان من سورية التحرر من التطرف واحترام حقوق المرأة والأقليات لرفع العقوبات المفروضة عليها.
الخوف العربي من تصدير الثورة التي اعتبرها الرئيس التركي ملهمة للشعوب كلها يحد من الاندفاعة العربية الواسعة باتجاه الانفتاح الكامل على سورية، ومن المؤكد أنه كلما ازداد النفوذ التركي المدعوم بتواجد عسكري يتسع يومًا بعد يوم على الساحة السورية، سيتراجع الدور العربي على المستويين الاجتماعي والسياسي، ليبقى الدور العربي محصورا بالدعم الاقتصادي، فيما يظل الحل السياسي المنشود في سورية رهين التطورات في المنطقة والعالم ومواقف الإدارة الأمريكية الجديدة ومسار العلاقات التي ستسلكها العلاقات التركية الروسية في المرحلة المقبلة بعد سقوط نظام الأسد.