بعد طول انتظار، أصبح من شبه المؤكد انعقاد القمة الروسية الأمريكية، بعد أن نضجت الثمار التي كانت تحول دون عقدها وحان قطافها بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب.
ومع أن مكان انعقاد القمة لا يزال غير معروف، إلا أن من المحتمل أن تكون في الرياض كما كان مقررًا قبل زيارة ترامب إليها، أو ربما في أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة حيث يرغب رئيس الإمارات محمد بن زايد بتسجيل إنجاز سياسي، أو ربما في إسطنبول باعتبار العواصم الأوروبية عصية على أي قمة روسية أمريكية جراء تداعيات الحرب في أوكرانيا والموقف الأوروبي الحاد من هذه الحرب.
فالزخم الإعلامي العربي والدولي والسباق المحموم لتحليل هذه القمة ونتائجها وهي لا تزال في طور التحضير والإعداد أمر طبيعي، لأن معظم دول العالم أصبحت بطريقة أو بأخرى مرتبطة بالحرب في أوكرانيا ومعنية بها، وبخاصة أوروبا. كما أن المواجهة بين الروس والأمريكيين مسألة تخص كل دولة من دول العالم، حيث إن الاستقرار والسلام في العالم يبقيان رهن العلاقة الروسية الأمريكية. كما أن العلاقات الروسية الأوروبية هي أيضًا رهينة العلاقة بين موسكو وواشنطن، وبالتالي يمكن فهم أسباب هذه اللهفة العالمية والاهتمام الإعلامي الواسع للقاء القمة بين بوتين وترامب، ولأهمية إعلان وقف إطلاق النار في أوكرانيا، خاصة وأن روسيا حققت معظم أهدافها وأصبح من شبه المستحيل قبول أوكرانيا عضوًا في الناتو بعد هذه الحرب الطويلة. وكانت الحرب قد بدأت بسبب إعلان نظام كييف انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وهذا إنجاز حقيقي، عدا عن استعادة روسيا لمعظم المناطق الناطقة بالروسية في إقليم دونباس، والذي يشكل تاريخيًا جزءًا أساسيًا من روسيا، عدا عن الإنجاز العسكري والمعنوي الكبير، وهو تحرير كورسك الروسية ونجاح عمليات تبادل آلاف الأسرى والمعتقلين. وبالتالي، فكل الأجواء أصبحت مهيئة لإعلان وقف إطلاق النار، خاصة وأن روسيا تعير أهمية كبيرة لاستعادة العلاقات مع واشنطن، وتعمل من أجل استغلال علاقات الصداقة التي تربط الرئيس بوتين مع ترامب من أجل فتح طريق جديد تسير عليه العلاقات بين موسكو وواشنطن بعد سنوات من التوترات والصدام جراء الحرب في أوكرانيا…
وليس هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الإعداد والتحضير للقاء الرئيسين بوتين وترامب لوقف الحرب في أوكرانيا. فقد ضرب الجانبان في آذار الماضي موعدًا للقائهما في الرياض، ولكن الرئيس بوتين رفض وقف إطلاق النار قبل تحرير كورسك الروسية، كما أنه لم يكن يرغب بمنح ترامب شيكًا على بياض. وكان ترامب شديد الحماس لإعلان قدرته على وقف إطلاق النار في أوكرانيا، ولكن الرئيس بوتين لم يمنحه هذه الورقة وذلك النصر الذي طالما تغنى ترامب بتحقيقه منذ دخوله البيت الأبيض، وذلك قبل أن يتأكد من حقيقة أن ما حققته القوات الروسية من انتصارات لا يجب أن يحصده ترامب كإنجاز شخصي… فما لقيصر لقيصر وما لله لله…
وكل ما يجري بشأن أوكرانيا سياسيًا وعسكريًا وإنسانيًا وإعلاميًا يشير إلى أن الأمور تسير في الاتجاه الذي ترغبه وتريده موسكو، التي ضاعفت نشاطها السياسي بعد اللقاء الهام الذي جمع الرئيس بوتين مع المبعوث الأمريكي الخاص ستيفن وينكوف الأربعاء في السادس من آب، والذي كشف في تصريحاته التي أعقبت اللقاء (الذي استمر أكثر من ثلاث ساعات) أجواء من التفاؤل ربما لم يكن هو نفسه يتوقعها. وربما يعود ذلك إلى قرار الرئيس بوتين بأنه حان الوقت لإعلان وقف إطلاق النار، ولم يعد هناك جدوى من استمرار الحرب أكثر من ذلك، خاصة وأن أهداف العملية العسكرية الروسية في دونباس أصبحت مضمونة في الجيب الروسي مهما بلغ صراخ زيلينسكي ومهما بلغت شكواه للرئيس ترامب، الذي بدوره عرف ألا يضع ثقته إلا في الرئيس بوتين، الذي سيجعله فرحًا بما أوتي دون أن يتنازل عن أهدافه قيد أنملة…
ذلك لأن الروس يحضرون كل شيء لوقف الحرب منذ فترة… والإعلان عن قبول وقف إطلاق النار في أوكرانيا أصبح ممكناً بعد أو أثناء قمة بوتين-ترامب التي ينتظرها العالم، وبخاصة أوروبا والشرق الأوسط، كما ينتظرها الأوكرانيون والروس، لأن التوترات والفوضى في العالم بلغت أعلى ذروة لها في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا ومواصلة إسرائيل حربها الإرهابية ضد قطاع غزة، وإعلان نتنياهو عزمه احتلال قطاع غزة كاملاً، بالإضافة إلى تفاقم الأوضاع في سورية جراء الحرب الدائرة بين الحكومة المؤقتة والأقليات في السويداء وشرق البلاد والساحل. وانعكاس هذه الأحداث على الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة والعالم… وربما تكون القمة الروسية الأمريكية في توقيت مناسب يضبط إيقاع هذه النزاعات والتوترات، ذلك لأن تحسين العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة يعد حجر الأساس في تحقيق السلام العالمي المنشود.
ولا شك أن إعادة الاستقرار إلى أوكرانيا وإلى الشرق الأوسط بشكل عام ستكون بداية مرحلة جديدة، خاصة بعد التحولات التي شهدتها المنطقة والعالم جراء هذه الحروب والأزمات. فأوروبا فقدت دورها جراء حرب أوكرانيا، فيما تمعن إسرائيل في سياسة التنمر والغطرسة وتلعب دورًا أكبر من حجمها لأول مرة منذ إنشائها، وتمارس لعبة سياسية خطيرة من خلال مواصلة الحرب في غزة وضرب الاستقرار النسبي في سورية ودعم انفصال الدروز والأكراد…
ولا شك أن لقاء القمة بين الرئيسين ترامب وبوتين سيكون على جدول أعماله ليس فقط وقف إطلاق النار في أوكرانيا، بل وتسوية الوضع في سورية، حيث لعبت كل من موسكو وواشنطن أدوارًا مختلفة خلال الحرب السورية، وكلتاهما تنشر قواتها في مناطق داخل الأراضي السورية. حيث تميل واشنطن إلى سحب قواتها من شرق الفرات والاحتفاظ ببعض القواعد وعدد من الجنود، فيما تسعى روسيا للاحتفاظ لنفسها بموضع قدم لها في المياه الدافئة من خلال علاقاتها القوية وتعاونها الوثيق أولاً مع الحكومة الشرعية، وثانيًا مع اللاعبين الرئيسيين على الساحة السورية بعد انتصار الثورة، وهما إسرائيل في الجنوب وتركيا في الشمال. ويبدو أن القمة الروسية الأمريكية فرصة للرئيس بوتين لتثبيت الوجود الروسي في سورية والحصول على موافقة أمريكية على إبقاء القواعد الروسية في حميميم وطرطوس، مقابل الحصول على تنازلات بشأن العلاقات مع الصين وتمكين واشنطن واستثماراتها في أوكرانيا… ويبدو أن الرئيس بوتين، كما كان منذ عقدين من الزمن، حريص على العلاقات الروسية مع الصين أكثر من تحسين العلاقات مع أمريكا، ولهذا اتصل بالرئيس الصيني شي جين بينغ قبل لقائه المرتقب مع الرئيس ترامب، وذلك في رسالة واضحة مفادها أن اللعب على خط موسكو-بكين خط أحمر، وأن العلاقات بين قطبي آسيا العظميين قوية، ولن تكون العلاقات الأمريكية الروسية تحت أي ظرف على حساب علاقات موسكو وبكين.
ورغم أن الوضع في أوكرانيا والحرب في غزة تهيمنان على اللقاء، بالإضافة إلى العلاقات الثنائية بين روسيا وأمريكا، إلا أن الوضع في سورية سيفرض نفسه وسيحتل أيضًا حيزًا هامًا، بالنظر إلى الأدوار التي تسعى تركيا بزعامة أردوغان وإسرائيل بزعامة نتنياهو للعبها للحلول مكان إيران التي فقدت كليًا الساحة السورية، وبخاصة في الجنوب والشمال. والتنافس بين إسرائيل وتركيا يؤدي إلى تعقيد المشهد السوري وإلى الاحتراب والاقتتال، ومن المتوقع أن يعلن الرئيسان حرصهما على وقف الحرب في سورية وإعادة السلام، وهذا لن يكون بدون إعطاء روسيا وإسرائيل هامشًا على الساحة السورية على حساب تركيا وأوروبا، وبخاصة في المناطق التي تتواجد فيها الأقليات. حيث تبدو واشنطن وأنقرة على طرفي نقيض في سورية بسبب دعم واشنطن لقوات سورية الديمقراطية التي ترفض الانضمام إلى الجيش السوري وتطالب بتطبيق نظام اللامركزية في المناطق الشرقية المتاخمة للحدود مع تركيا، وهو ما ترفضه أنقرة باعتباره تهديدًا لأمنها القومي، وتطالب بتطبيق اتفاق العاشر من آذار بين الحكومة وقوات سورية الديمقراطية، وتهدد بالقيام بعمليات حربية ضد هذه القوات التي تعتبرها حكومة أردوغان إرهابية… وتحاول تركيا من خلال دبلوماسيتها النشطة أن تظهر قوتها ودورها، ولكنها في الحقيقة تتعرض لهزيمة في سورية بسبب التعنت وقرار نتنياهو احتلال غزة التي كانت تركيا تحتضن قياداتها لسنوات وتدعمها بالتعاون مع قطر… ويبدو أن تحولات كبرى ستشهدها المنطقة في ضوء نتائج القمة التاريخية المرتقبة بين بوتين وترامب، والتي ينتظر منها إحلال السلام والاستقرار بدل الفوضى التي نشهدها اليوم حول العالم…