اتصال بوتين مع الشرع يذيب الجليد بين موسكو ودمشق …. والرسائل الإيجابية المتبادلة تنتظر الأفعال … فهل يستطيع أحد أن يشطب التاريخ أو يمحوه …
لا يمكن فصل الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس فلاديمير بوتين مع الرئيس السوري أحمد الشرع، والذي شكل مفاجأة بعد أكثر من شهرين على سقوط نظام الأسد والانبهار الدولي بهذا السقوط، في محاولة لإبعاد روسيا عن سورية سياسياً وعسكرياً وثقافياً واجتماعياً، إلا أن الأحداث تتكشف عن مقاربات جديدة تحافظ على مصالح كلا الجانبين.
ولا شك أن الاتصال الهاتفي بين بوتين والشرع، والذي جاء بعد زيارة بوغدانوف إلى دمشق، أثار موجة واسعة من ردود الفعل الدولية وعقد ألسنة أولئك القادة الذين كانوا يعملون ليلاً ونهاراً لمنع أي تواصل بين موسكو ودمشق ….. فالقيادة السورية الجديدة حريصة على نسج علاقات جيدة مع جميع دول العالم بما يؤمن وحدة البلاد وسيادتها ويحافظ على أمنها ومصالحها، خاصة وأن روسيا تعد ثاني أكبر قوة عظمى في العالم، ومبادرة رئيسها بوتين بالاتصال بالشرع ودعوته لزيارة موسكو يغير كل التوقعات بشأن الوجود الروسي في سورية وطبيعة العلاقات المستقبلية بين دمشق وموسكو، مع العلم أنه في ضوء ما حدث في سورية ووجود رئيس النظام السابق مع عائلته في موسكو كلاجئ إنساني، كان من الصعوبة بمكان أن يتصور الكثيرون إجراء الاتصالات بهذه السرعة وبهذا المستوى وبهذه الرسائل الإيجابية، خاصة وأن الفصائل المسلحة التي حررت البلاد من نظام الأسد ونصبت الشرع رئيساً كانت تقاتل خلال أربعة عشر عاماً في الخندق المقابل لروسيا .. إلا أنه كما قال وزير الخارجية الشيباني الذي سيزور موسكو قريباً إنه في السياسة لا عداوة دائمة ..
ومن هنا لا يمكن فصل مبادرة الرئيس الروسي بالاتصال لتهنئة الرئيس الشرع عن الأحداث الداخلية في سورية بعد تنصيب الشرع رسمياً رئيساً للجمهورية وبعد تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني وتحقيق قدر كبير من الاستقرار الأمني في البلاد . كما لا يمكن فصل المبادرة وترابطها مع الاتصال بين بوتين وترامب في اليوم ذاته، مع الإشارة إلى التطور اللافت للعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض في ظل حديث لا يزال خافتاً عن وجود صفقة بين واشنطن وموسكو حول سورية وأوكرانيا لإعادة ترتيب الأوراق والنفوذ في أوروبا والشرق الأوسط وبناء منظومة جديدة تحافظ من خلالها كلتا الدولتين على مصالحها الكبرى ودورها على الساحة الدولية، خاصة وأن إدارة ترامب ترفع شعار ((أمريكا أولاً)) وكأنه شعار موجه بالدرجة الأولى لحلفائها في أوروبا أكثر منه لأعدائها التقليديين في روسيا والصين، حيث يرفض الرئيس ترامب الاستمرار بدفع الأموال للناتو وكييف لمواصلة الحرب في أوكرانيا …. وربما العمل جار بسرعة أكبر مما نتصور لتغيير الوضع وإنهاء الحرب في أوكرانيا – إذا صدقت التوقعات – وبذلك تستقيم الأمور لكلا الدولتين العظميين. فالرؤية والحماسة الأوروبية لخروج روسيا من سورية تفتقر إلى الواقعية ولا تأخذ بعين الاعتبار التوصيف الذي أطلقه الشرع أكثر من مرة للعلاقات بين دمشق وموسكو بأنها استراتيجية.
… ويبدو أن الصورة بعد الاتصالات العالية المستوى بين القيادتين السورية والروسية بدأت تتكشف عن أبعاد جديدة لا تتناسب ولا تنسجم مع التوجهات الأوروبية للتخلص من النفوذ الروسي في المنطقة وإغلاق قواعدها في المياه الدافئة بإبعادها عن منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وإخراجها بالقوة من سورية وبشكل غير لائق .. إلا أن الجانبين السوري والروسي يعملان على خلق ظروف جديدة وبناء علاقات وفق أسس وقواعد تأخذ بعين الاعتبار المصالح السورية وتعيد النظر بالاتفاقيات التي وقعها النظام البائد مع روسيا والتي تجد فيها الإدارة الجديدة إجحافاً بحق سورية وتسعى لتعديلها وليس إلغائها كما يتبدى من البيانات والتصريحات الصادرة حتى الآن ..
وإذا أردنا أن نحكم حقيقة على العلاقات بين موسكو ودمشق بعد سقوط النظام البائد فإننا نتجه مباشرة إلى البيانات التي صدرت من قصر الشعب والكرملين بعد الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الشرع وبوتين والتي وصفت المحادثات بأنها بناءة ومفيدة ومتلائمة، وأدى هذا الاتصال المتزامن مع المكالمة التي استمرت ساعة ونصف بين بوتين وترامب إلى ارتفاع أسعار الأسهم الروسية وتحسن سعر الروبل، وبات الجميع يدرك أن الوضع الدولي الاقتصادي والسياسي والعسكري برمته وقضايا الأمن والسلام في العالم مرهونة بتطورات الأحداث في كل من الشرق الأوسط وأوكرانيا، مع العلم أن البعض قبل الاتصال الهاتفي بين بوتين والشرع كان يعتقد أن روسيا خرجت من سورية وأن اهتمامها ينصب على أوكرانيا فقط، إلا أن المحادثات السورية الروسية وجهت صفعة قوية للاتحاد الأوروبي، ولفرنسا وألمانيا على وجه التحديد، وهما تحاولان منذ سقوط النظام البائد الاحتفال بطرد روسيا من سورية والدعوة لخروج قواتها العسكرية من قاعدتي حميميم وطرطوس، ولكن كانت الدعوات متسرعة نتيجة الانبهار الأوروبي بسرعة سقوط النظام على يد الفصائل المسلحة بقيادة أحمد الشرع، وبدأت تتراجع لأن نتائج خروجها المتسرع ربما تنعكس سلباً على الأوضاع الأمنية والسياسية في سورية التي تعمل على تجميع كل القوى في الداخل والخارج لتغيير الصورة التي ترسخت خلال حكم النظام السابق عن سورية، وباءت المحاولات الأوروبية التحريضية بالفشل، خاصة وأن التركيز ينصب على أن روسيا شريكة في الجرائم التي ارتكبها النظام البائد ضد الشعب السوري، إلا أن كل هذه المحاولات زالت عن الوجود بعد المحادثات الروسية السورية البناءة والتي أعلن خلالها الرئيس بوتين حرصه على سلامة سورية ووحدة أراضيها واستعداد روسيا لمساعدة سورية في إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الإنسانية والقيام كبادرة حسن نية بإرسال مبالغ بالليرة السورية إلى البنك المركزي السوري الذي يواجه صعوبات بسبب استمرار العقوبات المفروضة على سورية..
ورغم محاولات الغرب تشويه صورة العلاقات التاريخية بين البلدين، إلا أن الأحداث تتكشف عن حقيقة مفادها أنه لا أحد يستطيع أن يشطب التاريخ، وأن تاريخ العلاقات السورية الروسية الممتدة عبر قرون عديدة تشكل ضمانة ودعامة لبناء علاقات مستقبلية بين دمشق وموسكو راسخة وقوية بالنظر إلى حجم وتنوع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية المتجذرة بين الشعبين والبلدين ..