شرارة الربيع التركي اشتعلت بالفعل، وهذه المرة ليست كغيرها من المرات التي نجح فيها رجب طيب إردوغان بالخروج من مأزقه أمام الشارع التركي، فرحيله أو تحجيمه اليوم بات حاجة و ضرورة ملحة ليس على صعيد الداخل التركي المحقون المقموع فحسب ، بل أيضاً على الصعيد الدولي ، فأمريكا واسرائيل ودول كثيرة لا تحبذ تمدد خطر أنظمة الإخوان المسلمين أكثر.
اعتقد أردوغان أنه حقق انتصارات استراتيجية بعدما أسقط سوريا بدعمه جماعات جهادية متطرفة ، وبعد إعلان عبد الله أوجلان زعيم حزب العمّال الكردستاني المُعارض بقُبول وقف القتال وإلقاء السّلاح، لكن طموحه بوصد الأبواب أمام جميع أعدائه ومعارضيه تبدد وفشل بعدما أقدم على اعتقال منافسه الأبرز للانتخابات الرئاسية المقبلة أكرم إمام أوغلو…وهنا يعود فضل انفجار الشارع التركي بوجه أردوغان لأردوغان نفسه..
بالأمس القريب كان رئيس النظام التركي يبحث على دور له بين الكبار، يستغل الفراغات في التوازنات الدولية في سوريا وغيرها، وكان يلعب على جميع الحبال لتحقيق مآربه التوسعية، في سوريا وليبيا وصولاً لأذربيجان، لكن كانت انتصاراته مرحلية وكشفت بالفعل مع مرور الوقت خططه المخادعة بتضخيم قدراته الوهمية وتصدير نفسه كزعيم لدولة عظمى بعد فضح الأحزاب التركية المعارضة له ترهل سياساته الداخلية، جاء بعد ذلك التحول الجيوسياسي في العالم والتقارب المتسارع بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، وواضح أن هذا التقارب زلزال لن يطيح بأوكرانيا ويزعزع الدول الأوروبية فقط، بل إنه بالنسبة لتركيا إردوغان يشكل أرضية سيئة للغاية تأثيره واضح على مستقبل عرشه، خاصة أن الأمريكي صديق نتنياهو مهتم بإبعاد تركيا عن مضايقة إسرائيل في سوريا.
بعد ستة أيام من الطوفان البشري في الساحات التركية والمطالبة بإسقاط نظام إردوغان الاستبدادي وسط تعتيم إعلامي متعمد على أحداث تركيا ، يعلن هاكان فيدان عن زيارة رسمية للبيت الأبيض للقاء كبار مسؤولي إدارة دونالد ترامب وبحث قضايا متعلقة بسوريا وأوكرانيا وفلسطين ، زيارة تأتي بعد مباحثات روسية أمريكية طويلة استمرت 12 ساعة في الرياض، ويبدو أنها لم ترسم كيفية إنهاء النزاع في أوكرانيا فقط، على
قدر ما وضعت خارطة طريق للتعامل مع معظم القضايا العالقة والمشتركة في المنطقة بمافيها التعامل مع تمرد إردوغان، زيارة فيدان في عنوانها المعلن جاءت لبحث قضايا إقليمية ودولية ، لكن من المتوقع أن تأتي على مشكلات إردوغان الداخلية لمساومته على قضايا إقليمية مقابل الحفاظ على توازن نظامه واستقراره.
لقد احترف إردوغان لعبة التمدد ولعب أدوار معقدة والاستثمار في الفوضى الخلاقة والاستعانة بشبكة من الجماعات الإسلامية المختلفة ، إلى أن وصلت الفوضى إلى عقر داره، وأصبح اليوم لا يمتلك عناصر القوة الكافية اقتصادياً ولا دبلوماسياً لكبح جماح شعبه الغاضب الذي ضاق ذرعاً من سياساته ” غير الحكيمة ” ،الاحتجاجات التركية تتوسع، وقضية عمدة اسطنبول أظهرت عمق الفجوة في الخطاب السياسي الذي يتبناه إردوغان وجماعته وعدم الاستعداد للمراجعة، فهو لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة تحفظ ماء وجهه ويعترف مباشرة أن ما يجري لا يتناسب مع قواعد الحريات التي يتشدق بها ولا يتسق مع مبادئ الديمقراطية التي انتخب بموجبها أو المنطق في دولة يروّج لها زعيم الإخوان على أنها نموذج في الحفاظ على الحقوق الإنسانية لمواطنيها وأنها توفر لهم دوما حماية سياسية ولا تمانع من تنظيم احتجاجات في ميادينها، فهو اليوم يصف مواطنيه بالإرهابيين ، واعتقل منافسه على منصب الرئاسة ” أوغلو” في أعتى سجون تركيا ، سجن “سيليفري” سيء السمعة المصنف كأضخم 7 سجون مكتظة عالميًّا،حيث أن به ضعف طاقته الاستيعابية، وألغى شهادته الجامعية لينهي مستقبله السياسي تماماً، لكن أمام هذا الزلزال الشعبي هل ينقذه قمع الاحتجاجات وتغييب معارضيه بهذه الطريقة؟؟ ألقى إردوغان قنبلة دخانية بالفعل لدرجة أن لا أحد يستطيع رؤية ما أمامه، هذا الغموض سيكشف في الأيام المقبلة وسنرى ما إذا كان الشعب التركي قادر على كسب هذه والجولة وقلب الموازين !!