في أول زيارة للرئيس السوري أحمد الشرع للقارة الأوروبية إلى فرنسا، وهي ليست دولة عادية، ذلك لأن باريس تحدد سياسة الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالشرق الأوسط. وربما تفاجأ الكثيرون من هذه الزيارة في هذا التوقيت بعد خمسة أشهر من انتصار الثورة السورية، ولكن من يتمعن جيداً بالدور التاريخي لفرنسا في سوريا سيدرك أهمية الزيارة لكل من دمشق وباريس على حد سواء، ولكل الأطراف المنخرطة في البحث عن حل للأزمة في سوريا.
ففرنسا هي رمز للعلمانية في العالم، كما أنها رمز لحماية الأقليات في الشرق الأوسط. والاندفاعة الفرنسية تجاه الحكومة السورية لها مبررات وأهداف كثيرة، فالمصالح الفرنسية السياسية والاقتصادية كثيرة، حيث إن باريس تبحث لاستعادة النفوذ التاريخي لها في سوريا ولبنان، وهذا الهدف يتقدم على المصالح الاقتصادية التي لا تخفى على أحد. فقد حلت فرنسا محل إيران في استثمار ميناء اللاذقية، وفي ذلك إشارة إلى أنها تسعى لملء الفراغ الذي تركته إيران في سوريا، وفي الوقت نفسه تحد من النفوذ التركي الكبير الذي تحاول حكومة أردوغان فرضه على الإدارة السورية، خصوصاً في ضوء الحديث عن انسحاب القوات الأمريكية من شرق سوريا، حيث تلعب فرنسا دور الوسيط بين الحكومة السورية وقوات سورية الديمقراطية، في وقت تحتفظ فرنسا بقوات لها في سوريا ضمن قوات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.
زيارة الرئيس الشرع إلى باريس، بالإضافة إلى الرسائل السياسية والاقتصادية، فإنها تأتي في إطار تأهيل الحكومة السورية للانخراط أكثر في المجتمع الدولي، وهذا ما يفسر الزيارات واللقاءات المتكررة والاهتمام الفرنسي بسوريا بعد سقوط نظام الأسد، حيث قام وزير الخارجية الفرنسي برفقة نظيرته الألمانية بزيارة دمشق، كما نظمت فرنسا مؤتمراً دولياً واسعاً لحشد التأييد والدعم للحكومة السورية. وفي مقابل كل هذا الاهتمام الفرنسي، تجاوبت الحكومة السورية مع جميع المتطلبات الفرنسية لجهة مكافحة الإرهاب والتعاطي مع الأقليات، والسعي للتخلص من العناصر الأجنبية في وزارة الدفاع، وموضوع تنظيم العلاقات السورية اللبنانية، والعمل على ترسيم الحدود بين البلدين، بالإضافة إلى حرص الحكومة السورية على مراعاة مصالح الدول المنخرطة في الصراع السوري، خاصة تركيا وروسيا. وقد كان لافتاً التفهم الفرنسي لطبيعة الوجود العسكري الروسي في سوريا، حيث امتنع الرئيس الفرنسي عن ذكر روسيا خلال المؤتمر الصحفي مع الشرع في باريس ووجودها العسكري في سوريا، ودعا إلى إبعاد النفوذ الإيراني فقط، مع العلم أنه بعد أيام من سقوط نظام الأسد، طالبت باريس بخروج القوات الروسية من سوريا، إلا أن زيارة الرئيس الشرع لفرنسا أثبتت من جديد حرص دمشق على علاقات جيدة مع روسيا، وهذا ما دل عليه تراجع فرنسا عن دعوتها لخروج القوات الروسية من قاعدتي حميميم وطرطوس.
إن زيارة الرئيس الشرع إلى باريس تؤكد الاعتراف الفرنسي الرسمي بالسلطة الجديدة، من خلال دعوة فرنسا إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وحصر السلاح بيد الدولة، ومحاسبة المتورطين في أحداث الساحل، وإعادة الاستقرار في سوريا، بالإضافة إلى بحث موضوع الاعتداءات الإسرائيلية والدور الفرنسي في كبح هذه الاعتداءات. وفي مقابل كل هذا الإطراء والاهتمام الفرنسي الذي ما كان ليكون بهذا الزخم لولا الضوء الأخضر الأمريكي، إلا أن كل ذلك لم يكن مجاناً، وإنما كان بمثابة تفويض أمريكي لفرنسا لمنح واشنطن الوقت الكافي لتقييم عمل حكومة دمشق وإعلان موقفها النهائي من مسألة رفع العقوبات، كون إدارة ترامب تضع نفسها في موقع صاحب القرار النهائي فيما يتعلق برفع هذه العقوبات. وقد أوعزت واشنطن لدولة قطر بدفع رواتب القطاع العام في سوريا، وفي ذلك إشارة لمدى تحكم واشنطن بمسألة رفع العقوبات من عدمها.
ومن هنا يمكننا أن نفهم ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه على دمشق أن تلتقي باريس في منتصف الطريق، وما قاله أيضاً وزير الخارجية الفرنسي إن بلاده لن تعطي شيكاً على بياض لسوريا. ومن خلال هذين التصريحين للرئيس ماكرون ووزير خارجيته، يمكننا أن نستشف صعوبة التحديات التي تواجه الحكومة السورية وهي تحاول استرضاء فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، في وقت تم فيه الإعلان لأول مرة عن وساطة تقوم بها الإمارات العربية المتحدة بين إسرائيل وحكومة الشرع التي كانت بحاجة إلى وسيط موثوق من أجل لجم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ومن أجل توسيع نطاق سيطرتها وحصر السلاح بيدها في الجنوب السوري.
إنه من المبكر الحكم على نتائج زيارة الرئيس الشرع لفرنسا وانعكاساتها على الوضع في المنطقة، حيث هيمن الملفان اللبناني ومسألة ترسيم الحدود بكل حساسيته وتداخلاته، وملف الأكراد بكل تعقيداته لضمان نجاح المفاوضات بين قوات سورية الديمقراطية والحكومة، بالإضافة إلى القلق الفرنسي والإسرائيلي من اتساع النفوذ التركي وطغيانه على الحكومة الجديدة في دمشق بعد زيارة الشرع لفرنسا. في وقت يعتبر المحللون أن كل ما يجري حول سورية رهن بالموقف الأمريكي من الحكومة السورية ليس إلا.