إدارة ترامب تسير بسرعة البرق باتجاه دمشق… وحكومة الشرع تلاقيها بالأقوال والأفعال. والسؤال: هل تؤدي السياسة الأمريكية الجديدة إلى تحقيق السلام أم إلى تفجير المنطقة من جديد؟
لأول مرة يظهر الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة تجاه سوريا، فالهوة كبيرة بين الجانبين في المقاربة بشأن النظرة للنظام الجديد في سوريا برئاسة أحمد الشرع… فإسرائيل تعتدي على الأراضي السورية وتحتل جزءا كبيرا منها وصولا إلى حدود العاصمة دمشق، وتمنع انتشار الجيش السوري في منطقة جنوب دمشق، وتدعم المسلحين الدروز في تلك المنطقة، وتجري اتصالات مع قوات سورية الديمقراطية في شرق البلاد، وتسعى لإقامة ممر داوود في الصحراء السورية، وتعتبر الحكومة السورية تشكل خطرا على الأمن الإسرائيلي..
وتحت هذا العنوان تقدم إدارة ترامب مقاربة مختلفة للوضع في سوريا وتزاود حتى على إسرائيل نفسها في موضوع الحفاظ على أمن الدولة العبرية، وهي تمضي تحت هذا العنوان لتحقيق مجموعة من الأهداف وقد أظهرت جدية في إحداث تحول جذري في العلاقة مع دمشق بدأت بالتدرج منذ سقوط النظام في الثامن من كانون الأول الماضي بقرار تخفيف جزئي للعقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، ومن ثم الاكتفاء بمراقبة الوضع عبر الحليف التركي، وصولا إلى تعيين السفير الأمريكي في أنقرة توماس باراك سفيرا خاصا للرئيس الأمريكي في سوريا بعد الاجتماعات التي شهدتها الرياض وأنقرة خلال زيارة الرئيس ترامب للرياض وعقد القمة السورية الأمريكية والتي كانت بداية تحولات كبرى على صعيد العلاقات السورية الأمريكية وتطورها على مختلف الصعد، بدءا بقرار ترامب رفع العقوبات بشكل كامل وافتتاح السفارة الأمريكية في دمشق خلال زيارة باراك إلى دمشق، والإعلان عن سحب القوات الأمريكية من ثلاث قواعد في شمال شرق سورية بما يعادل خمسمائة جندي، والإبقاء على خمس قواعد، بالإضافة طبعا إلى العمل مع تركيا من أجل منع أي مواجهة بين إسرائيل وحكومة الشرع من جهة وبين إسرائيل وتركيا، والكشف عن اتصالات مباشرة بين حكومة الشرع وإسرائيل بوساطة تركية. فالوجود العسكري الروسي في ظل هذا التنافس الحاد بين القوى الإقليمية على الساحة السورية ربما يشكل عامل استقرار لسوريا، لأن تحسن العلاقات الروسية الأمريكية في عهد ترامب انعكس بشكل إيجابي على الوضع في سوريا على كافة الصعد. فالتصادم الأمريكي الروسي خلال رئاسة بايدن أدى إلى تعقيد الأوضاع في سوريا وإلى اتساع رقعة المواجهة والفوضى، فيما تعمل إدارة ترامب إلى إيجاد توازن بين القوى الموجودة على الأراضي السورية وبخاصة بين تركيا وروسيا، وإبقاء التواجد العسكري الروسي في طرطوس لمنع تركيا من توسيع نفوذها في الساحل السوري. وبذلك فإن واشنطن تلعب دورا محوريا في ترتيب البيت السوري ليس كرما لعيون السوريين وإنما من أجل مصالحها وللتفرغ للمواجهة مع الصين.
وخلال الأسابيع الماضية بعد لقاء الشرع وترامب، سرعت واشنطن من خطواتها التطبيعية مع سوريا بشكل لافت، فيما كانت حكومة الشرع تؤكد أنها تريد تحقيق الأمن والاستقرار وتسعى لتصفير المشاكل في المنطقة وتريد إقامة علاقات حسن جوار مع جميع دول المنطقة. غير أن انعدام الثقة بين إسرائيل وحكومة دمشق لا يزال يلقي بظلاله على أي تحسن للعلاقات السورية الأمريكية بسبب الحجج الإسرائيلية بأن حكومة الشرع تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، مع أن الحقيقة التي يؤمن بها العالم هي عكس ذلك، حيث تهدد إسرائيل الأمن والاستقرار في سوريا والمنطقة…..
وفيما تمضي الولايات المتحدة في تصرفاتها كزعيمة متوحدة وواحدة في المنطقة والعالم منذ استلام ترامب كرسي الرئاسة الأمريكية، مستخدمة كل أدواتها وحليفاتها في المنطقة كالسعودية وتركيا وإسرائيل لإحكام سيطرتها على سوريا وعلى قرارها السياسي، حيث يتفق الجمهوريون والديمقراطيون في مجلس الشيوخ والكونغرس على ضرورة استغلال اللحظة من أجل تغيير المنطقة لصالح مشروع الشرق الأوسط الجديد والحفاظ على أمن إسرائيل، فإن إدارة ترامب تعمل لضم سوريا إلى حليفاتها في المنطقة وضبط إيقاع الخلافات بين تركيا والخليج وإسرائيل بعد هزيمة إيران وخروجها من المنطقة، ومنع تركيا من إعادة السيناريو الليبي في سوريا، واستغلال الظروف للبدء بإقامة مشاريع واستثمارات أمريكية شرق الفرات وعلى الشواطئ السورية بعد الاكتشافات الغازية الواعدة في المياه الإقليمية السورية. وبهذه السياسة فإن ترامب يعيد رسم التحالفات والخارطة الجيوسياسية للمنطقة انطلاقا من سوريا…
ويبدو أن واشنطن تريد أن تستعيد مواقعها ودورها في سوريا وتركيا وإعطاء الآخرين أدوارا جزئية ومحدودة. فالتوقيع على الاتفاق بين حكومة الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سورية الديمقراطية يضعف موقف تركيا ويشكل الأكراد تهديدا وجوديا لتركيا، ولم تجد حكومة دمشق وتركيا الوسيلة لمواجهة هذا التحدي الذي يخدم إسرائيل ومشروعها لتقسيم المنطقة، مع أن الحكومة السورية تسعى لتوحيد سوريا تحت سيطرتها بشكل كامل بمساحة سوريا البالغة 185 ألف كيلومتر مربع. وفي ظل التحديات التي تواجهها سوريا أمنيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا، فإن الخطوات الأمريكية تجاه حكومة دمشق كانت مفاجئة ومتسارعة، خاصة بعد قمة الرياض وتعيين مبعوث خاص لأمريكا في سوريا، والذي استطاع خلال أسابيع أن يخلق أجواء إيجابية للغاية وأن يضع أسسا لعلاقات جديدة بين دمشق وواشنطن بعد زيارته إلى دمشق وتصريحاته بعد لقائه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو في البيت الأبيض، حيث خرج المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك بعد اللقاءات ليعلن عن انبعاث الأمل من جديد بفتح صفحة جديدة مع سوريا، وأعلن ترحيب واشنطن بالفتوى التي أصدرها مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا بشأن تحريم الثأر والانتقام والاحتكام إلى القضاء، ووصف الفتوى بأنها خطوة عظيمة، كما أشار إلى قرار الكونغرس الأمريكي بشأن إزالة اسم سوريا من قائمة الدول المارقة كإيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، ووصف ما تقوم به حكومة دمشق بأنه صفحة جديدة في تاريخ المنطقة… ومع كل هذه التصريحات الأمريكية والخطوات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وإعلان حكومة الشرع ليلا ونهارا أنها تريد السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، إلا أن كل هذه التحركات والتصريحات لم تبدد الشكوك بشأن مستقبل سوريا ومستقبل العلاقات السورية الأمريكية في ظل ازدياد المخاوف في الداخل السوري جراء الانفلات الأمني وأعمال القتل المجانية التي يتم تسجيلها باسم مجهول، كما حدث في بلدة الربيعة بريف حماة وفي حي عش الورور بدمشق عندما قتل عدد كبير من الأشخاص في زمان ومكان محددين وهم داخل حافلات للنقل دون أن يتم اعتقال الجناة…
واللافت هو الحديث الخافت في الشارع السوري أن ثمن كل ذلك لن يكون إلا بالاعتراف بإسرائيل وتوقيع اتفاق معها وفق الشروط الإسرائيلية وبأي ثمن، طالما أن الرئيس ترامب يسعى لإبرام صفقة، وربما يستطيع خلال ولايته الثانية والأخيرة أن يحقق السلام بين سوريا وإسرائيل ويستكمل الاتفاقيات الإبراهيمية ويضم سوريا إلى المحور الغربي إلى جانب تركيا ودول الخليج، حيث تلاقي حكومة الشرع الخطوات الأمريكية خطوة بخطوة برضى وفرح وحماسة منقطعة النظير ودون أي قيود على الشروط والمتطلبات الأمريكية، في وقت تستخدم واشنطن كل ما تمتلكه من أوراق قوة على الأراضي السورية وفي المنطقة لإبعاد خصومها واستخدام حلفائها كأدوات لخدمة مشروعها في المنطقة والحفاظ على أمن إسرائيل بالدرجة الأولى…
أمريكا عمليا باتت تطوق دمشق من الجهات الأربع، مع أن الرئيس الشرع قام بخطوات ملموسة على الأرض وقام بحل كل الهياكل السابقة لهيئة تحرير الشام وضم جميع الفصائل إلى قوات الجيش السوري وذلك بهدف حصر السلاح بيد الدولة السورية، إلا أن ما يحصل على الأرض لا يخدم الاستقرار في نهاية المطاف، حيث بقيت إسرائيل في الجنوب السوري عامل مزعزع للأمن ومعها المسلحون الدروز ومهمتها منع استكمال انتشار الجيش ومنعه من الدخول إلى مناطق الجنوب السوري، فيما تسيطر قوات سورية الديمقراطية على منطقة شرق الفرات وينشط تنظيم داعش في الصحراء، عدا عن المشكلة الكبرى مع فلول النظام السابق والمجموعات الموالية لإيران. ولم يغير الدعم الأمريكي لحكومة الشرع من واقع الحال على الأرض، ولا يتعدى الدعم المعنوي في المحافل الدولية بعد رفع العقوبات وإعادة دمشق إلى نظام سويفت المالي العالمي، ولكن على الأرض فإن البعض يعتقد أن واشنطن لن تفعل إلا ما يرضي إسرائيل، وهي تسعى مع حكومة نتنياهو إلى تقسيم سوريا. أما الخطوات الجزئية مثل تفكيك مخيم الركبان وسحب بعض القوات من سوريا وتعيين سفير لها في دمشق ويقيم في تركيا، فلا تقدم ولا تؤخر، لأن كل هذه الخطوات يمكن أن تتوقف فجأة، لأن سوريا تحتاج إلى مشروع يشبه مشروع مارشال في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة الإعمار فيها، وهذا المشروع لن يقوم به تاجر مثل ترامب لا يهتم إلا بالربح ولا يقبل الخسارة، بل تقوم به دول لديها الإرادة الحقيقية في إعادة الاستقرار والأمن إلى المنطقة…
إن الرهان على العامل الخارجي أمر حتمي بالنسبة للحكومة السورية بسبب نقص الموارد والإمكانيات، ولكن لابد من إعطاء العامل الداخلي الاهتمام الكبير، ولا بد من التعويل على السوريين أنفسهم وعلى ثرواتهم ومواردهم لإعادة بناء بلدهم ومنع تقسيمه والحفاظ على وحدته، وإلا فإنهم سيخسرون وطنهم جراء استمرار الفوضى والحروب، وعليهم الاعتماد على أنفسهم، لأن من اتكل على زاد غيره فقد طال جوعه… والمستجير بأمريكا حليفة وحامية إسرائيل التي تسعى لتحقيق شعار “حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل” كالمستجير من الرمضاء بالنار…