أوجعت أحداث السويداء الدامية السوريين وأعادتهم إلى أجواء الحرب، وانشغل العالم ووسائل الإعلام الدولية بمتابعة وتحليل وتفسير التطورات الخطيرة في الجنوب السوري. واتسع الجدال والغضب في الشارع السوري بعد انسحاب الجيش والقوى الأمنية من السويداء بعد دخولها والانتشار فيها، وذلك على خلفية التدخل الإسرائيلي ضد حكومة الشرع وعمليات القصف الصهيوني التي طالت رمزين من رموز السيادة السورية: القصر الجمهوري ووزارة الدفاع. حيث اجتمع مجلس الأمن وأدان العدوان الإسرائيلي على العاصمة دمشق ورموز السيادة السورية. فيما شكل موقف الطائفة الدرزية بطلب الحماية الدولية فرصة للكيان الصهيوني للتدخل بحجة الدفاع عن الدروز.
وأدى القصف الإسرائيلي على دمشق ودرعا والسويداء إلى تغيير موازين القوى، حيث اضطرت وحدات الجيش والقوى الأمنية للانسحاب من السويداء بعد أن تراجعت مشيخة الموحدين الدروز عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الحكومة السورية ونقلته على الهواء القناة الإخبارية السورية، والذي يقضي بعودة مؤسسات الدولة إلى المحافظة. إلا أن إسرائيل التي تسعى لتقسيم سورية واصلت عدوانها، وفي نفس الوقت قام عناصر من أبناء السويداء بأعمال انتقامية من البدو الذين ارتكبوا انتهاكات كبيرة وجسيمة، ما أدى إلى سقوط أكثر من ثلاثمائة شخص بينهم عدد كبير من المدنيين ومن عناصر الجيش وأبناء السويداء.
وفي خضم تبادل الاتهامات بارتكاب انتهاكات، كانت الوقائع على الأرض تفرض معادلات جديدة توحي بأن سورية ذاهبة إلى التقسيم، خاصة أنها المرة الأولى في تاريخ سورية التي يضطر فيها الجيش للانسحاب من مدينة سورية تحت ضغط المسلحين والفصائل المنفلتة، ذلك أن مهمة حفظ الأمن موكلة للجيش والقوى الأمنية وليس للقوى الخارجة عن القانون والتي ترفض تسليم السلاح للدولة.
ومع أن الجهود التي بذلها الجيش في بداية الأزمة لفض الاشتباك بين الدروز والبدو أثمرت عن اتفاق، إلا أن حجم التحريض الإعلامي وصور وفيديوهات الانتهاكات بحق أبناء المحافظة والتي نقلتها وسائل الإعلام العالمية، وتراجع مشيخة الدروز ورئيسها الشيخ حكمت الهجري عن الاتفاق، والحالة المعنوية السلبية في الشارع السوري بعد الهجوم الإسرائيلي الوحشي على وزارة الدفاع والأركان العامة والقصر الجمهوري، كل ذلك أنتج خطاباً إعلامياً جديداً لم يكن قبل ذلك، وبات لأول مرة في تاريخ سورية الاستقواء بالعدو الإسرائيلي مسألة غريبة ومستهجنة شعبياً، حيث يستغل البعض أحداث السويداء وقبلها الساحل السوري لنشر موجات من العنف الطائفي والتحريض. فيما أعلنت الحكومة السورية أنها لا تتحمل أي مسؤولية وأنها تعمل على إعادة الأمن والاستقرار وترفض الانجرار إلى الاقتتال، وتتهم إسرائيل بالعمل على تفكيك سورية.
ولا شك أن التدخل الإسرائيلي وتبادل السيطرة على السويداء خلال أيام، وانسحاب الجيش لمنع الفتنة، وتدخل إسرائيل بالأحداث، خلق أجواء من الخوف وزاد من توجس السوريين من مشروع التقسيم الذي يطل بوجهه القبيح من الشمال والجنوب، بعد أن استبشر السوريون خيراً برفع العقوبات الأمريكية وبالإجراءات الإيجابية التي اتخذتها الحكومة والتي تؤكد بالدرجة الأولى على وحدة البلاد وسيادتها.
وفي ظل احتدام الصراع الدولي بين الغرب والشرق، فإن الوضع في سورية لا يزال بعد سبعة أشهر من انتصار الثورة السورية معقداً وصعباً وسط دعوات إسرائيلية وغربية لتقسيم سورية. ومع اتساع الخلافات بين إسرائيل وتركيا، حيث تسعى إسرائيل لتفكيك سورية وإقامة كيانات طائفية وعرقية، فيما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفض بلاده القاطع لتقسيم سورية. وهذا موقف تعتبره الحكومة في دمشق سنداً ودعماً لها لمواجهة المشروع الإسرائيلي. وقد كشفت خطابات وتصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع خلال الأسابيع الماضية رفضه القاطع لتقسيم سورية، وبأنه لن يقبل إلا بسورية موحدة أرضاً وشعباً وجيشاً وقيادة.
أحداث السويداء قلبت الأوضاع رأساً على عقب، ودخول العامل الإسرائيلي شكل خطراً على وحدة البلاد، خاصة وأن إسرائيل تريد تقسيم سورية ولها أطماع في أراضيها، وهي تستغل الظروف ورضوخ بعض مكونات الشعب السوري لها في الجنوب والشرق، عدا عن استغلال الانتهاكات ووجود عناصر أجنبية منفلتة داخل الجيش، مع حملات مشبوهة لنشر الطائفية، واستغلال إسرائيل حالة الوهن والتشتت والضعف التي تمر بها سورية. وما حدث في السويداء يمكن أن يشكل درساً وعبرة لكل السوريين، لأن المتربصين بسورية وثرواتها أكثر من طرف، في ظل وجود أربع جيوش من أقوى جيوش العالم على الأراضي السورية، وهي الأمريكي والروسي والتركي والإسرائيلي، فإن الخطر كبير لأن الصراع الدولي لا يرحم الضعفاء. وما حدث في السويداء يزيد الأطماع ويضاعف المتربصين بسورية وشعبها، فقد تبادلت السيطرة على المدينة خلال ثلاثة أيام قوى متصارعة محلية ودولية، واليوم يمكن القول إن السويداء باتت عملياً خارج سيطرة الدولة السورية، وأن إسرائيل باتت تتحكم بالجنوب السوري وتمنع انتشار الجيش العربي السوري. وهذا الواقع تتحمل مسؤوليته التاريخية مشيخة عقل الموحدين الدروز، وليس أبناء السويداء الذين عاشوا في كنف الدولة السورية ولا يزالون يقاومون المحتل الإسرائيلي في الجولان السوري المحتل طوال سبعة عقود، وهم يطالبون بالعودة إلى أرض الوطن ويرفضون الهوية الإسرائيلية، في وقت تعطي الدولة السورية فرصة للحوار وللحل وعودة الاستقرار.
ولا شك أن مقاربة الحكومة للأحداث الخطيرة في السويداء كانت مختلفة في شكلها ومضمونها ونتائجها عن أحداث الساحل، فالأطراف المنخرطة بأحداث السويداء متعددة، منها الدروز والبدو والحكومة السورية ومجلس الأمن وتركيا وإسرائيل التي دخلت الحرب لصالح طرف سوري ضد طرف آخر، وطالب وزراء من حكومة الاحتلال باستهداف الرئيس الشرع مباشرة وإسقاط الدولة السورية لصالح مشروع التقسيم. وهذه المواقف المتطرفة لاقت استهجانا واسعاً من مختلف مكونات الشعب السوري، وخرجت مظاهرات استنكار للعدوان الإسرائيلي في مختلف المناطق السورية وخاصة في دمشق وريفها وفي دير الزور ودرعا.
الرئيس السوري أحمد الشرع الذي أجرى سلسلة اتصالات مكثفة مع زعماء في المنطقة والعالم، وبخاصة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومع أمير قطر، وجه خطاباً وطنياً متوازناً وهادئاً إلى السوريين، دعا فيه إلى الحفاظ على وحدة البلاد، وتعهد بمحاسبة الذين اعتدوا على أبناء السويداء، وأكد أن سورية واحدة موحدة، وأن الشعب السوري لا يخاف القتال من أجل كرامته، في إشارة إلى أن العدوان الإسرائيلي والتدخل الإسرائيلي لن يحقق أهدافه، وأعطى الأوامر لسحب الجيش من السويداء وإتاحة الفرصة للحوار والسلام وعودة الاستقرار.
ومع استمرار الشحن الطائفي وأعمال القتل والاشتباكات وتبادل الاتهامات بالعمالة للعدو الإسرائيلي حيناً وبالطائفية حيناً آخر، اندفع الطرفان عشائر البدو والدروز بعد انسحاب الجيش من السويداء إلى ثكناته إلى تحشيد أنصارهما، ووقعت اشتباكات دامية لا تزال مستمرة منذ الخامس عشر من تموز الجاري بين عشائر البدو الذين نادوا إلى “فزعة” من المحافظات السورية كلها واتجهوا إلى السويداء التي صدت هجمات عديدة، في حين كان طيران العدو الإسرائيلي يرسل المسيرات ويقصف أرْتال المسلحين قبل أن يصلوا إلى السويداء التي تحولت إلى قضية دولية وأدت إلى بروز انقسامات حادة في المجتمع السوري. فيما عاد الملف السوري في ضوء التطورات الخطيرة في السويداء إلى مجلس الأمن الدولي الذي اجتمع بناء على طلب من الحكومة السورية، وبرز الجانب التركي كطرف رئيسي إلى جانب الحكومة، رغم أن جميع الدول أبدت تعاطفها مع سورية بعد العدوان الإسرائيلي على دمشق والسويداء. غير أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن أن تركيا لن تسمح بتقسيم سورية، في إشارة إلى أن ما يحصل في السويداء يشجع الأكراد في شمال البلاد على أن يحذوا حذو الدروز في الجنوب، خاصة بعد فشل الاجتماع بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي بشأن ضم قوات سورية الديمقراطية إلى الجيش، حيث رفضت هذه القوات المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية الانضمام إلى الجيش، ولا تزال تسعى للانفصال عن الدولة السورية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى موضوع هام وهو أنه ليست المرة الأولى التي يتقاتل فيها البدو والدروز، فما داموا جيراناً يعيشون جنباً إلى جنب فإن المشكلات والمناوشات كانت مستمرة لها طابع خلافات محدودة بدون أي أبعاد طائفية. غير أن ما حصل هذه المرة في السويداء ومحيطها على غير العادة، أن البدو الذين يعيشون على تخوم المدينة مع أبنائها وجدوا في الحكومة الجديدة في دمشق عوناً لهم، وأرادوا أن يستغلوا الخلافات بين الدروز للحصول على مكاسب باعتبار أن ما يجري طارئ ومؤقت وفرصة للانتقام عن كل ما لحق بهم خلال العقود الماضية. كما كان للعامل الإسرائيلي من الجانب الآخر دوراً هاماً في المجزرة الرهيبة التي راح ضحيتها عشرات الأطفال والنساء والشيوخ، وصلت الحصيلة إلى أكثر من 250 شهيداً بينهم عدد كبير من قوات الأمن الداخلي والجيش.
ولم يكن تدخل الجيش في الاشتباكات التي وقعت بين البدو والدروز عادياً، فقد استقوى البدو والمجموعات المسلحة بقوات الجيش التي حاولت فض الاشتباك وتوقيع اتفاق مع مشيخة الدروز في السويداء ونجحت في ذلك، ودخلت قوات الجيش المدينة بسلام وأمان. غير أن المجموعات المسلحة الدرزية التي تجمعت من الريف داخل السويداء استقوت بدورها بإسرائيل التي أعلنت أنها لن تسمح للجيش العربي السوري بدخول المدينة، وقامت الطائرات الإسرائيلية بغارات مكثفة على وحدات الجيش التي دخلت المدينة، كما استهدفت طرق إمدادها من دمشق وقصفت عشرات المواقع العسكرية جنوب دمشق في أزرع ودرعا والسويداء ومطار الثعلة العسكري، بالإضافة إلى العدوان غير المسبوق على دمشق.
وفي ذروة الإدانات العربية الواسعة للاعتداءات الإسرائيلية التي أسفرت عن استشهاد عدد كبير من عناصر الجيش وإصابة العشرات، كانت الفصائل المنفلتة تنفذ عمليات انتقام واسعة بعد أن تم خرق الاتفاق واشتدت الاشتباكات بين حركة رجال الكرامة الدرزية وبين قوات الأمن والجيش التي وجدت نفسها بين هذه المجموعات والطيران الإسرائيلي، حيث انقلبت الصورة وتغير المشهد واختفى الحدث الذي نشب بين البدو والدروز، وظهر أن ما وراء الأكمة ما وراءها، وأن إسرائيل تنفذ مشروعاً خطيراً ضد سورية وحكومتها، رغم الحديث عن لقاءات بين حكومة الشرع وحكومة نتنياهو في باكو وأذربيجان والإمارات العربية المتحدة. واعتبر البعض أن ما حدث هو خدعة وقع الجيش في أتونها وتكبد خسائر كبيرة، مع العلم أن البيانات الرسمية التي نشرتها وسائل الإعلام السورية كانت تميل بكاملها ومن أول حرف فيها حتى آخر حرف للمناشدة والتوصية بعدم تجاوز القوانين، ومخاطبة أبناء السويداء بلغة وطنية جامعة لم تعهدها البيانات العسكرية السورية في مثل هذه الحالات.
ولا شك أن الفيديوهات التي نشرتها وسائل الإعلام عن التجاوزات والاعتداء على الكرامات وعلى شيوخ ورجالات الطائفة الدرزية الكريمة لم يكن إلا لتشويه سمعة الجيش وقوى الأمن. وقد شاهد السوريون الاجتماع الذي جمع ممثلين عن الحكومة والفعاليات الدينية والاجتماعية في المدينة.
ولا شك أيضاً أن الجيش لم يكن ليرتكب جريمة ويقوم بتصويرها وعرضها بكل بشاعتها ودمويتها وتأثيراتها، فمن قام بهذه الأفعال كان يهدف إلى إشعال الفتنة وإلى تشويه صورة الجيش. وهذا أمر لا يستغربه السوريون وهم يعرفون أن ثمة عشرات العناصر المندسة والمنفلتة والمرتبطة بجهات خارجية وبتنظيم داعش تستغل هذه اللحظات، عدا عن وجود العامل الإسرائيلي الذي يريد أن يدخل في مفاوضات مباشرة مع حكومة دمشق بعد أن يتم تجريدها من كل عناصر قوتها ومن الدعم الشعبي لها، خاصة بعد أن نجحت حكومة الشرع في إعطاء صورة جديدة، وتم رفع العقوبات الأمريكية، وبعد ذلك رفعت واشنطن اسم هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية. وهذه الإجراءات أعطت حكومة دمشق دعماً وحافزاً لاستعادة المناطق التي لا تزال خارج سيطرتها، غير أنها لم تحسب حسابات الخداع والمكر التي تتصف بهما حكومة الاحتلال التي أعلنت صراحة بعد سلسلة اجتماعات عقدها نتنياهو ووزير دفاعه إسرائيل كاتس وأعضاء الحكومة أنها ستدخل الحرب ولن تسمح بنشر الجيش في السويداء، وكأن دخول الجيش العربي السوري إلى السويداء اعتداء على كيان الاحتلال، فإذا بحكومة نتنياهو ترسل طائراتها لتقوم بقصف سورية وشعبها وأرضها دون أن يحرك مجلس الأمن ساكناً.
ما حصل في السويداء ليس معركة بين البدو والدروز، ولا مجرد إشكال بين الطرفين كان يحدث دائماً بين القرى والسكان وبين أي قريتين متجاورتين يحصل بسبب الخلاف على الحدود وعلى المياه وعلى المراعي. ولكن أن يتحول هذا الخلاف إلى حرب ذات طابع طائفي فإن ذلك أمر يهدد وحدة سورية، وهذا ما يحرص الجميع على إدانته وتجاوزه بالعودة إلى الحوار والاستقرار، باستثناء إسرائيل التي تريد إقامة دويلات طائفية ودينية على شاكلتها.
ولا بد من الإشارة إلى أن أحداث السويداء وقعت فيما كان الحديث والتسريبات الإعلامية تشير إلى احتمال حصول لقاء بين الرئيس الشرع ونتنياهو خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول القادم. غير أن محاولات نتنياهو إظهار نفسه وكأنه الحاكم الفعلي لسورية وللمنطقة من خلال إملاء شروطه ومنع انتشار وحدات الجيش العربي السوري في جنوب البلاد، وهذا يجعل كل سوري يشعر بالغضب، خاصة بعد أن خرقت إسرائيل عشرات المرات اتفاق الهدنة الموقع عام 1974، وهي تسعى لتبديله باتفاق أمني جديد لصالح الدولة العبرية وعملائها، وهذا ترفضه سورية ومعها بالطبع الدول العربية وتركيا، وهي الدول التي دانت القصف الإسرائيلي على مواقع الجيش في السويداء ودمشق.
المعركة في السويداء لم تنته، وخارطة سورية تتغير من يوم لآخر، ومع إصرار السوريين على توحيد بلدهم ومنع تقسيمه وتمزيقه، فإن كل محاولات إسرائيل ومن يقف معها ستفشل، لأن إرادة الشعب والجيش والحكومة في سورية موحدة ولن تسمح بتمرير مشاريع التقسيم والفدرلة، وستبقى سورية واحدة موحدة. وربما تكون أحداث السويداء مقدمة لإبرام اتفاق سلام بين إسرائيل وسورية، حيث يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تحقيق إنجاز شخصي لنفسه يجعله يدخل التاريخ من بوابة السلام بين سورية وإسرائيل، وليس كتاجر يفرض الضرائب ويستفز الدول الكبرى.