الرئيس بوتين يستقبل الشيباني.. ولافروف يؤكد مراجعة الاتفاقات السورية الروسية…
في أوقات الحرب وفي أوقات السلام، وخلال أكثر من ثمانية عقود مضت، حافظت العلاقات الروسية السورية على متانتها وقوتها في كل الظروف والأحوال، وكانت تتجدد وتتوائم مع التغيرات السياسية في كلا البلدين. وأصبح الجميع، وحتى المشككين والمتربصين بالعلاقات السورية الروسية، على قناعة تامة من أن ما يجمع بين دمشق وموسكو لا يمكن لأحد أن يفرقه…
ولم يكن حرص روسيا ما بعد الشيوعية على تحسين العلاقات مع سورية، وبخاصة منذ تسلم الرئيس بوتين سدة الحكم في الكرملين، بأقل من حرص سورية على تعزيز العلاقات ما بعد حكم البعث وسقوط نظام بشار الأسد واستلام الرئيس أحمد الشرع الحكم في قصر الشعب. وقد عبر الرئيس الشرع في أكثر من مناسبة عن احترامه لدولة روسيا والدور الإيجابي الذي تلعبه على الساحة السورية بعد التحرير، وذلك رغم كل التناوش في وسائل الإعلام حول ضبابية هذه العلاقات ومستقبلها.
وجاءت زيارة الوفد السوري إلى موسكو، والذي يضم وزراء الخارجية أسعد الشيباني والدفاع اللواء مرهف أبو قصرة ورئيس الاستخبارات العامة حسن سلامي، لتعبر عن هذه المعاني وتؤكد أن كل المشكلات العالقة بين البلدين يمكن حلها، خاصة بعد إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال المؤتمر الصحفي مع نظيره السوري أسعد الشيباني أن موسكو مستعدة لمراجعة كافة الاتفاقات والمعاهدات الموقعة بين البلدين، واستعداد موسكو للمساهمة في عملية إعادة إعمار سورية، عدا عن مواقف موسكو الداعمة لسورية في مواجهة محاولات إسرائيل استغلال أحداث السويداء لفرض واقع جديد يكرس الفرقة والطائفية، وهذا ما ترفضه حكومة الشرع التي تسعى بكل السبل، بدعم كبير من تركيا وروسيا، إلى الحد من التمدد الإسرائيلي الخطير، حيث تقيم إسرائيل حواجز على بعد عشرين كيلومتراً من دمشق وتمنع نشر الجيش العربي السوري في مناطق الجنوب السوري وتدعم الخارجين عن القانون في السويداء. حيث تستطيع روسيا، من خلال التزاماتها وعلاقاتها ودورها الخاص والمميز في الملف السوري، أن تضغط على إسرائيل التي تطالب بنشر قوات محلية في مناطق الجنوب وتسعى لزعزعة الاستقرار في سورية. ولا ننسى العلاقات الخاصة التي تربط روسيا مع المكونات السورية المختلفة، وهي تستطيع أن تلعب دوراً أيضاً خلال مفاوضات باريس بين الحكومة السورية وقوات سورية الديمقراطية برعاية أمريكية وفرنسية. مع العلم أن لروسيا قوات في شمال شرق سورية ولديها مطار عسكري في القامشلي بريف الحسكة، بالإضافة طبعاً إلى لجوء آلاف المواطنين السوريين من أبناء الساحل إلى قاعدة حميميم الروسية خلال أحداث الساحل في آذار الماضي وبقائهم حتى الآن، ما يكرس الأهمية الكبيرة التي تتمتع بها روسيا لدى الأقليات، وعدم القدرة على تجاوز دور موسكو الأساسي ومساهمتها الصادقة في إعادة الأمن وتعزيز وحدة سورية قبل التحرير وبعده..
وتأتي زيارة الوزير الشيباني والحفاوة التي لقيها مع أعضاء الوفد في موسكو في خضم محاولات كل من تركيا وفرنسا وإسرائيل التناوش لتقاسم الكعكة السورية والضغط على الحكومة السورية الجديدة. فقد أصدرت محكمة فرنسية حكماً رفضت بموجبه دعوى لمحاكمة بشار الأسد، وقد اعتبر بعض المحللين ذلك إشارة فرنسية سلبية تجاه حكومة دمشق ومحاولة للضغط عليها لتغيير مواقفها بشأن التعامل مع الأقليات في السويداء والساحل وشرق الفرات.. كما ترافق ذلك مع اعتداءات إسرائيلية إرهابية خطيرة على السيادة السورية ودعم الحركة الانفصالية في السويداء، ومع تصريحات أطلقها المبعوث الأمريكي إلى سورية توم باراك الذي شارك في محادثات باريس ودعا إلى وقف الانتهاكات ضد الأقليات وحمايتهم كشرط لمواصلة خطوات التقارب والتطبيع مع حكومة دمشق..
وفي ميزان الربح والخسارة ولغة المصالح، فإن سورية وحكومتها الجديدة التي آلت على نفسها تحقيق الاستقرار في البلاد وإقامة حوار مع الجميع، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، وتحقيق توازن بين الغرب والشرق في علاقات سورية الخارجية، فإن سورية الجديدة تجد نفسها اليوم أمام دولة صديقة. وقد كشفت الوقائع والأحداث خلال الأشهر السبعة الماضية بعد التحرير أن روسيا كانت في طليعة الدول الداعمة للاستقرار في سورية. وقد وجه الرئيس بوتين خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الشرع دعوة للرئيس الشرع لزيارة موسكو. كما كانت روسيا في طليعة الدول التي تدعو إلى وحدة سورية وسيادتها، ودعت إلى تطبيق القرار 2254 الذي يؤكد على ضرورة المحافظة على وحدة سورية وسيادتها.
ويكفي إلقاء نظرة سريعة ومتفحصة لزيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى روسيا ولقائه مع الرئيس فلاديمير بوتين ومع نظيره الروسي سيرغي لافروف لندرك الإرث الإنساني والاجتماعي والسياسي والعسكري الكبير الذي يجمع الجانبين. فالوزير الشيباني وأبو قصرة التقيا مع نظيريهما الروسيين لافروف وبيلاسوف، وكانا يعبران في كل الأوقات عن سعادتهما وارتياحهما لسير المحادثات، وهما يتحركان في العاصمة موسكو وفق برنامج مكثف وعملي ولافت. كما اجتمع الوزير الشيباني مع ممثلين عن الجالية السورية في روسيا ومع السفراء العرب في العاصمة الروسية موسكو. وربما يشعر السوريون بالفخر وهم يتابعون باهتمام كبير زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو، من ناحية أنها الزيارة الأولى بعد التحرير، بعد شهور من حملات التحريض ضد روسيا ودورها ومكانتها واتهامها أحياناً لتشويه سمعتها بأنها وراء سقوط النظام السابق. ذلك لأن الزيارة عكست بهذه الأريحية والانسجام، من ناحيتي الشكل والمضمون، أجواء مختلفة عن التصورات التي حاولت وسائل الإعلام رسمها خلال الفترة الماضية لتشويه العلاقات بين دمشق وموسكو، والتي تجمعهما روابط لا تنفصم عراها تتجاوز كل التحديات وكل الخلافات. مع أن أحداً لم يكن يستطيع قبل الزيارة أن يتصور وجود مسؤولين سوريين في العاصمة الروسية التي يتواجد فيها رئيس النظام السابق بشار الأسد. ومع أن أحداً لا ينكر أن دور روسيا تراجع في سورية بعد التحرير، ولكنه في الوقت نفسه أصبح دوراً ضرورياً وحيوياً وأكثر أهمية بالنسبة لاستقرار سورية والمنطقة… فلروسيا دور في مكافحة الإرهاب وفي عملية السلام في المنطقة، والأهم من ذلك تلعب دوراً بارزاً ومتعدد الجوانب: جانب سياسي، اقتصادي وعسكري، عدا عن الروابط الدينية والثقافية والاجتماعية بين سورية وروسيا. واليوم يزداد دور روسيا طالما أن الدول الأخرى المنخرطة في الصراع على سورية، وهي تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا، تحتاج كل واحدة منها إلى التعاون والتنسيق بطريقة أو بأخرى مع روسيا الموجودة بشكل شرعي على الأراضي السورية، ولا يمكن لأي قوة أن تطلب إزاحتها من دون أن تتسبب بمشكلة كبيرة تفوق أي تصور. مع العلم أن إسرائيل تقوم بتنسيق خطواتها مع روسيا، ويقوم دان ديرمر، المبعوث الشخصي لرئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعضو الكابينت الإسرائيلي، بزيارات دورية إلى موسكو ويلتقي بالرئيس بوتين، كما يزور واشنطن ويلتقي الرئيس ترامب الذي تربطه مع الرئيس الروسي علاقة صداقة تسمح لموسكو وواشنطن طرح جميع القضايا والمشكلات بخلاف ما كان عليه الوضع خلال حكم أوباما. كما أن أحداً لا يمكنه أن ينكر العلاقات التي تربط روسيا وتركيا والتنسيق بين الرئيسين بوتين وأردوغان حول الوضع في سورية، مع الإشارة إلى الاتصال الهاتفي بين الرئيس بوتين ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الشهر الماضي، وهو الاتصال الأول منذ ثلاث سنوات، وكان الوضع في سورية حاضرا خلال المحادثات بين الرئيسين.. وما نريد قوله والوصول إليه أن روسيا هي القاسم المشترك الأعظم بين الفرقاء المتنافسين اليوم على الساحة السورية في ظل الخلاف الكبير والمستمر بين تركيا والولايات المتحدة التي تدعم قوات سورية الديمقراطية، والتي تقوم تركيا والحكومة السورية بالتحضير لقتالها في حال فشلت مفاوضات باريس الهادفة لمساعدة دمشق على دمج قوات قسد مع الجيش العربي السوري. لتبقى موسكو العارفة والمطلعة على تفاصيل المشهد السوري هي بيضة القبان بين هذه الدول المتنافسة وكفة الميزان لتحقيق التوازن والاستقرار المطلوبين على الساحة السورية.
ولا شك أن حكومة دمشق، بعد نجاحها في إظهار حالة من التوازن المدروس والدقيق في علاقاتها الخارجية بين دول الجوار والدول العربية والعالمية، ومشاركتها في مفاوضات باكو وباريس والإمارات مع إسرائيل والولايات المتحدة، اكتشفت أنها وحيدة في مواجهة أعداء بلباس أصدقاء، وأن الضغوط رغم رفع العقوبات تزداد عليها تحت عناوين حماية الأقليات. ولذلك سارعت إلى الاتصال المباشر مع روسيا، وقامت بإرسال رسائل ذكية ومؤثرة عبر روسيا والرئيس بوتين الذي تلقى الرسائل السورية برحابة صدر وسعادة، مؤكداً استعداد بلاده لمناقشة جميع القضايا والمشكلات العالقة وطرح جميع الهواجس التي تشغل حكومة الشرع. ولهذا اكتسبت زيارة الشيباني إلى موسكو أهمية وسط اهتمام إعلامي محلي وعربي ودولي، بالنظر إلى حساسية الملفات الساخنة التي تم التطرق إليها ومناقشتها، ومنها الوضع المعقد في الجنوب السوري، وجهود حصر السلاح بيد الدولة، والتطورات بشأن تطبيق اتفاق العاشر من آذار بين الحكومة وقوات سورية الديمقراطية، وتأكيد المواقف الروسية التي أعلنها الرئيس بوتين والوزير لافروف الداعمة لوحدة سورية والحفاظ على سيادتها وتحقيق الاستقرار والأمن على أراضيها ومنع تقسيمها وتفكيكها..