لم تفلح الحكومة السورية، مع كل ما قامت به من تحركات وما اتخذته من إجراءات على الأرض، في وضع حد لأعمال العنف والفوضى في محافظة السويداء التي تمر بتجربة قاسية وغير مسبوقة سياسيا وإنسانيا وعسكريا، وسط حالة من الشك والغموض حول ما ينتظر المدينة وأهلها في ظل استمرار التدخل الإسرائيلي المباشر ورفض الحكومة السورية لمطالب وشروط مشيخة الموحدين الدروز بزعامة حكمت الهجري، الذي يطالب بحكم لا مركزي وشرطة محلية لضبط الأمن ويمنع نشر الجيش وقوات الأمن في السويداء.
وأمام حالة التنمر والعدوانية التي تمارسها إسرائيل تحت عنوان حماية أبناء السويداء، واتساع الخلافات بين تركيا وإسرائيل على الساحة السورية، ومع عمق الشرخ والانقسام المجتمعي الحاد في سورية حول الوضع في السويداء، فإن الأنظار اتجهت إلى الموقف الأمريكي، حيث باتت واشنطن منذ لقاء ترامب والشرع في الرياض ورفع العقوبات عن سورية تمارس دورا مهما على الساحة السورية بين أطراف متعددة ومتصارعة ومتحالفة معها. غير أن المفاجأة كانت عندما نأت واشنطن بنفسها عن أحداث السويداء واتخذت موقفا وسطا خلال مفاوضات باريس وما تلاها من اجتماعات واتصالات، وذلك لمراعاة الموقف الإسرائيلي وحتى لا تغضب إدارة ترامب حكومة نتنياهو المتطرفة، ولكي تترك لها حرية التحرك على الساحة السورية. وقال المبعوث الأمريكي إلى سورية توم باراك إن سورية تستحق الاستقرار، وإن السوريين يستحقون السلام، فيما أشارت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية إلى أن واشنطن مستعدة للتعاون بشأن وقف إطلاق النار في السويداء، وأن باراك منخرط مع كل الأطراف السورية لتسوية الوضع. ودعت الخارجية الأمريكية إلى تشكيل حكومة شاملة ومتكاملة، وإلى الحوار بين الحكومة وكل من مشيخة الدروز وقوات سورية الديمقراطية، وأكدت في الوقت نفسه استمرارها بدعم حكومة الشرع.
وفي مقابل الموقف الأمريكي المتذبذب حيال ما يجري في السويداء وشمال شرق سورية، وسعت حكومة نتنياهو المتطرفة نطاق تدخلاتها في الشؤون الداخلية السورية، واحتلت مواقع جديدة في العمق السوري. وأفادت وكالات الأنباء أن قوات الاحتلال استقدمت قرابة أربعين جنديا وعربات عسكرية واحتلت منزلا غير مكتمل البناء يعود لأحد المدنيين على طريق حضر-طرنجة في محافظة القنيطرة، حيث تسعى إسرائيل لفرض سيطرتها على المنطقة بشكل مباشر لربط مصير السويداء بمشروعها الصهيوني من خلال السيطرة على شريط القرى والبلدات الدرزية الممتد من جبل الشيخ إلى السويداء، ومحاولة وصل هذا الخط عبر محافظتي درعا والقنيطرة، والتوسع شرقا عبر قاعدة التنف الأمريكية، وصولا إلى المنطقة الشرقية عبر ما يسميه الصهاينة “ممر داوود”. ويمكن القول إن إسرائيل، التي تسعى لإفشال خطط دمج قسد مع الجيش العربي السوري وتدفع في المقابل الدروز للانفصال ومنع تسليم سلاحهم للدولة، فإنها تسعى جادا لتقسيم سورية واحتلال أجزاء من أرضها الغنية بالموارد والمياه وتشجيع الدروز على الانفصال.
في هذه الأثناء، يستمر النزوح من السويداء إلى درعا وريف دمشق، وقد أقامت الحكومة أكثر من ثمانين مركزا لإيواء النازحين من البدو ومن سكان المدينة، حيث تجري عمليات النزوح وسط حالة من الخوف والقلق، ومع استمرار الخروقات لوقف إطلاق النار الموقع في 15 تموز الماضي بين الحكومة السورية والمجموعات المسلحة في السويداء، وسط ضبابية وتململ شعبي واسع جراء الوضع الإنساني والمعيشي، حيث انقطع الطلاب عن مدارسهم، ولم يتمكن أبناء السويداء من استكمال امتحانات شهادة البكالوريا والجامعات هذا العام. كما يعيش السكان وسط حصار مطبق وفي ظل استنفار أمني جراء الخوف من أعمال الثأر والانتقام التي تقوم بها العشائر ومسلحو البدو وبعض الفصائل المنفلتة، فيما تحتاج المدينة إلى مساعدات إنسانية بشكل يومي.
وأمام انسداد الحل السياسي والأمني، فإن أجواء الحرب لا تزال تسود المدينة ومحيطها، حيث تتواصل معاناة السكان، وبخاصة الفئات الضعيفة كالأطفال والنساء والشيوخ، وتزداد الهموم على الأسر المسالمة والفقيرة التي يتراجع مستوى معيشتها وتفقد كل مقومات الحياة الإنسانية والعيش الكريم. أما موقف الحكومة، فإنه باهت وغريب، وكأن الحكومة تنتظر حلا يأتيها من الخارج وينزل عليها فجأة، فهي تكتفي بالإعلان عن السماح بدخول المساعدات، وأكدت أن وجود الدولة في السويداء هو الحل. وقال أحمد الدالاتي، المسؤول الأمني عن السويداء، إن العصابات المتمردة بالسويداء هاجمت نقاطا للأمن الداخلي في قرى تل حديد وربما حازم برياف السويداء، واعتبر أن سلوك هذه العصابات يدل بشكل قطعي على أن وجود الدولة هو الحل الوحيد لضمان أمن المحافظة.
ومع أن الحكومة السورية لا تزال تبدي الكثير من المرونة والتمهل بعد أكثر من شهر من أعمال العنف والقتل في السويداء، إلا أن أبناء السويداء باتوا على شبه قناعة بأنهم لن يتعاملوا مع حكومة الشرع ولن يقوموا بتسليمها أسلحتهم إلى الجيش العربي السوري، وأن نظام اللامركزية الإدارية يكاد يصبح حقيقة على الأرض رغم أن السويداء صغيرة الحجم ولا موارد لديها وهي تعتمد على المساعدات الإنسانية التي تقدمها الحكومة السورية وعلى الدعم الإسرائيلي.
في ظل هذا الوضع المعقد وتوقف مسار أستانا بعد سقوط النظام ودخول إسرائيل بدلا من إيران إلى الساحة السورية، فإن الحاجة ملحة إلى إيجاد صيغة جديدة تكبح هذا الجموح المنفلت نحو الفوضى والتقسيم والانفصال عن طريق مفاوضات سياسية تجمع السوريين وتحد من التدخل الإسرائيلي الذي وصل إلى مرحلة تشكل خطرا على جميع مكونات المجتمع السوري، لأن أبناء السويداء وهم يستجيرون بالصهاينة لحمايتهم فهم بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار وهم أشبه باستجارة العرب ببريطانيا وفرنسا لطرد الدولة العثمانية قبل مائة عام.
ويبدو أن أحداث السويداء الدامية خلقت واقعا جديدا مختلفا عما كان عليه الوضع بعد توقيع اتفاق العاشر من آذار مع قوات سورية الديمقراطية، لتأتي أحداث الساحل وبعدها أحداث السويداء لتزيد من تعقيد المشهد وتهدد فعليا بتقسيم سورية خاصة وأن البيانات التي تدعو لحماية الأقليات والتي يصدرها الشيخ الهجري من السويداء ويطلب دعم إسرائيل…بالإضافة إلى البيانات المماثلة التي يصدرها من باريس الشيخ غزال غزال للمطالبة بحماية أبناء الساحل السوري من الجماعات المسلحة المتفلتة التي لا تزال تقتل بدون محاسبة.
ولا شك أن الوقت لا يزال متاحا للتوصل إلى اتفاق خاصة وأن أبناء السويداء لا يريدون الانقسام السياسي وإنما يدفعهم الخوف من الجماعات المسلحة من البدو والفصائل المنفلتة للمطالبة بالحماية والانفصال اجتماعيا خاصة مع استمرار الاشتباكات التي تأخذ طابع الانتقام والطائفية أكثر من كونها مشروعا سياسيا.
ولا بد من الإشارة إلى أن الهجري كان اختار عدم الاندماج مع الدولة حتى قبل أحداث السويداء والساحل وهذا يعني أن سورية أصبحت أمام حالة من انسداد الأفق سياسيا وأصبحت تحتاج مع كل إشكالية أو مشكلة إلى تدخل وإلى رعاية دولية من الغرب أو من الخليج أو من تركيا وحتى الآن يبدو أن إسرائيل لا تريد أن تسمح لأحد بالتدخل وحاولت إبعاد تركيا عن أحداث السويداء بالقوة العسكرية فيما كانت الثقة بين أبناء السويداء وحكومة دمشق تصل إلى أدنى مستوياتها بالتزامن مع تصعيد واسع من جانب قوات سورية الديمقراطية وحالة من الشك والريبة والانتظار لدى أبناء الساحل.
ومن شبه المؤكد أن ما ستفضي إليه أحداث السويداء سيكون بمثابة مسطرة يقيس عليها بقية السوريين في مختلف المناطق مع العلم أن أي حديث عن الانفصال والتقسيم يعد ضربا من الجنون، فالسوريون يدركون أن حكومة الثورة التي يقودها الشرع تحتاج إلى بعض الوقت وهي تواجه تحديات جمة داخلية وخارجية وتسعى للحفاظ على وحدة البلاد بكل الطرق لأن انفصال السويداء سيفتح على الحكومة أبواب جهنم وسوف تصبح إسرائيل في قلب المعادلة السورية وسيكون من الصعوبة بمكان استعادة الجولان السوري المحتل خاصة وأن أبناء الجولان كانوا دائما يرفضون الهوية الإسرائيلية غير أن أحداث السويداء غيرت هذه الصورة وقلبتها رأسا على عقب.
