
في أول مقابلة له مع الإعلام الوطني بعد التحرير… الشرع: سورية لا تقبل القسمة ولن تتنازل عن ذرة تراب…. والعلاقة مع روسيا وثيقة ويجب الحفاظ عليها..
لم تقلل الأخطاء الفنية التي وقعت خلال بث مقابلة الرئيس أحمد الشرع الأولى له بعد التحرير مع قناة الأخبارية السورية، ولا طريقة طرح الأسئلة هكذا ببساطة دون تمحيص وتحديد، من أهمية المواقف التي أعلنها الشرع حول الأحداث في السويداء والمفاوضات مع قوات سورية الديمقراطية، والعلاقات الدولية، بخاصة مع روسيا والولايات المتحدة وإيران، والمفاوضات الجارية مع إسرائيل، بالإضافة إلى الاستحقاقات الداخلية كالانتخابات البرلمانية وإطلاق صندوق التنمية السوري لإعادة إعمار المناطق الأكثر دمارا وإعادة اللاجئين والنازحين، والوضع الاقتصادي والمعيشي والطاقة… والاستثمارات العربية والأجنبية في سورية. لقد ظهر من اللقاء أن العلاقة مع روسيا تشغل جزءا واسعا من تفكير الرئيس الشرع، خاصة أن روسيا ستكون المحطة التالية بعد زيارة الشرع لنيويورك لإلقاء كلمة سورية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة…
لقد منح الإهمال والاستسهال وسوء الاهتمام بالشكل وطريقة طرح الأسئلة دون تمحيص أولئك الذين يمتهنون الصيد بالماء العكر فرصة للهجوم على اللقاء ومضامينه، رغم أن الرئيس كان يجيب ببساطة وصدق ودون تردد، ويعرض الموضوعات بشكل مباشر وتلقائي بكل أريحية دون تكلف أو ارتباك أو أخذ زمن لاختيار الألفاظ والمصطلحات، رغم أنه لم يكن هناك أي سؤال محدد، وكان المذيع يكتفي بالقول: وماذا عن السويداء؟ وماذا عن شرق الفرات؟ ماذا عن روسيا؟ ماذا عن إيران؟ ماذا عن الولايات المتحدة؟ وهكذا، وكان الرئيس يحاول أن يختار ضمن هذه العناوين التي يحتاج كل واحد منها ساعات لشرح أبعادها الجزء الذي يطفو ويشكل هاجسا في تفكيره…
وكان لافتا في اللقاء المساحة التي أعطاها الرئيس الشرع للحديث عن العلاقات السورية الروسية والعلاقة مع موسكو، حيث كشف عن مفاوضات جرت بينه وبين الروس خلال عملية ردع العدوان، وأكد أن روسيا ابتعدت عن المشهد بشكل كلي ولم تتدخل عسكريا بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى حمص.
كما أكد الرئيس أن العلاقات مع روسيا تاريخية منذ الاستقلال، وأن حكومته ماضية في تحسين العلاقات مع معظم دول العالم، وأنها تقيم علاقات متوازنة مع جميع الدول في الشرق والغرب، وخص روسيا بمساحة واسعة مستعرضا تاريخ العلاقة معها منذ الاستقلال، وقال الرئيس الشرع: إن روسيا دولة مهمة في العالم وهي عضو في مجلس الأمن، وهناك روابط وثيقة معها وينبغي الحفاظ عليها.
وكشف الشرع أنه خلال معركة التحرير جرت مفاوضات مع روسيا، وعند وصولنا إلى حمص، الروس ابتعدوا عن المعركة وانسحبوا من المشهد العسكري باتفاق…
وحول معركة حلب التي سبقت بأسابيع معركة ردع العدوان وتحرير دمشق في الثامن من كانون الأول عام 2024، قال الشرع: في بداية العمل العسكري كنت أمام عدة خيارات، وكان بإمكاننا أن نستهدف قاعدة حميميم وأن نستهدف كل الطائرات الموجودة داخلها.
ورغم أن البعض أخذ على الرئيس في هذا المجال محدودية وعدم قدرة هيئة تحرير الشام على استهداف قاعدة حميميم، إلا أن الروس طالما أعلنوا عن خروقات بالجملة لاتفاق خفض التصعيد، وإطلاق طائرات مسيرة باتجاه القاعدة الروسية كانت القوات الروسية تسارع إلى إسقاطها في معظم الأحيان، غير أن المرحلة التي سبقت عملية ردع العدوان وحتى قبل معركة تحرير حلب تراجعت بشكل ملحوظ الخروقات لاتفاق خفض التصعيد في إدلب، وحصلت تغييرات على صعيد الوضع في إدلب، حيث قام الرئيس الفار بشار الأسد قبل أشهر من معركة ردع العدوان بتغيير قيادة الفرقة الخامسة والعشرين التي كان يقودها سهيل الحسن، وكان الروس يشرفون على عملياتها بشكل مباشر، وكانت على تماس مع هيئة تحرير الشام في إدلب، وعند بدء العملية في حلب انسحبت الفرقة وعناصرها من دون قتال، ومنذ ذلك الحين على ما يبدو بدأت الاتصالات بين الروس وهيئة تحرير الشام، وعن هذه الاتصالات قال الرئيس الشرع: إنه بعد سيطرتنا على حلب بدأنا بفتح العلاقات والتواصل مع روسيا في ذلك الوقت..
وعلى الصعيد الداخلي، أكد الشرع أن حكومته تعمل على عدة مسارات في آن معا، وقال: إن الهدف هو تحقيق الأمن والأمان وتأمين معيشة السوريين (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، وأكد أنه بعد مهرجان النصر واختيار الرئيس جرى تشكيل الحكومة وتمت صياغة الإعلان الدستوري، وجرى العمل لاستكمال بناء مؤسسات الدولة، وعلى إجراء انتخابات مجلس الشعب، وسيتم بعد ذلك العمل على صياغة الدستور بكل تفاصيله. كما أشار الرئيس إلى التحديات التي واجهت سورية وبخاصة التحديات الأمنية والأوضاع الاقتصادية التي بدأت تتحسن شهرا بعد شهر منذ الثامن من كانون الأول الماضي، ووعد الشرع بأن الأوضاع سوف تواصل تحسنها على الصعيدين الأمني والاقتصادي خلال الأشهر القادمة….
وبخصوص الأوضاع في السويداء، قال الشرع من خطورة الوضع هناك، واعتبر ما جرى في السويداء خلاف بين البدو والطائفة الدرزية الكريمة، وتطور وحصلت أخطاء من الجميع، والواجب كان أن نوقف سيل الدماء…
وأقر الرئيس الشرع بالأخطاء التي حصلت، وشدد على مبدأ المحاسبة وفق القانون، مشيرا إلى أن تقسيم سورية يعني تقسيم دول المنطقة أيضا، وهذا أمر مرفوض، وقال: سوريا لا تقبل القسمة، وإذا أراد شمال شرق سوريا أن يذهب إلى نوع من التقسيم، فإن العراق وتركيا ستتأذيان بشكل كبير.
وفيما أكد الشرع أن العلاقات مع مصر ذاهبة باتجاه التحسن، فقد اعتبر أنه لن تكون هناك قطيعة دائمة مع إيران رغم أن الجرح عميق بعض الشيء.
لقاء الرئيس الشرع مع الإخبارية جاء في خضم الأحداث التي تشهدها السويداء، ومع اتساع حجم وكثافة الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، وتوقف المفاوضات مع قوات سورية الديمقراطية، وتراجع الحماسة الغربية لدعم الحكومة في دمشق، واتجاه الوضع في سورية باتجاه التدويل والحل وفق القرار 2254، والرؤية الأمريكية التي تقول بنظام حكم لا مركزي، وبقاء الحكم مركزي في دمشق بما يتعلق بالخارجية والدفاع والمالية، مع إعطاء الإقليم كله استقلالية لإدارة شؤونه.
ورغم أن هذه الأفكار باتت تسيطر على تفكير الشارع السوري، وتبدو العودة إلى نظام الحكم المركزي في ظل الأوضاع في السويداء وعلى محاور التماس مع قوات سورية الديمقراطية والعدوانية الإسرائيلية صعبة وربما مستحيلة، مع الإشارة إلى التصعيد الكبير بين الجيش وقوات سورية الديمقراطية خلال الأيام الماضية، في وقت تستعجل تركيا بشكل خاص تنفيذ اتفاق العاشر من آذار، فقد سقط عدد من الضحايا بين قتيل وجريح في اشتباكات عنيفة على محور دير حافر في حلب، وسط تبادل الاتهامات بخرق اتفاق العاشر من آذار الذي يقضي بدمج قوات قسد الذي يبلغ تعدادها أكثر من مئة ألف عنصر بالجيش، حيث لا تزال هذه القوات منذ العام 2015 تسيطر بدعم أمريكي على النفط والغاز وجميع الثروات السورية في شرق الفرات، وهي المنطقة التي تعد سلة غذاء سورية..
في نظرة عميقة لمقابلة الرئيس الشرع الأولى مع الإعلام الوطني بعد التحرير، لا يلمس المتابع تغييرات على مستوى ما يمكن أن تحدثه الثورات من تغييرات، فالثورة تقلب الأوضاع رأسا على عقب، غير أن التغيير في سورية لا يزال محدودا، فالأصدقاء هم الأصدقاء، أما الأعداء فقد حرص الرئيس الشرع على حصرهم وتحديدهم فقط بأولئك الذين يرغبون ويعملون على تقسيم سورية وتفتيتها وبث الفتن بين أبنائها، في إشارة واضحة إلى إسرائيل وبدرجة أقل إيران دون أن يسميها، مع الإشارة إلى المكانة التي باتت تحتلها سورية في المنطقة والعالم، وقوله: إن دول المنطقة تكن المحبة لسورية… وهذا صحيح قولا واحدا، فدمشق ستبقى عاصمة العروبة والإسلام.. هكذا ينظر الآخرون إليها…
وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهها البعض حول المقابلة خاصة لناحية الأخطاء والأداء الإعلامي، يمكن الإشارة إلى عدة أمور أولها: أن العلاقات مع روسيا قوية وهناك إرادة باستمرارها، كما أن الموقف السوري من إيران ليس كما يظن البعض وكأن حكومة دمشق تريد فتح جبهات القتال مع إيران، بل على العكس، ومن نافلة القول إن نظام الحكم في إيران يشبه إلى حد كبير نظام الحكم في سورية كنظام إسلامي، ولا ننسى أن علاقة إيران مع الأنظمة الإسلامية كانت دائمة علاقات جيدة ومتميزة، ولا ننسى كيف دعمت إيران أنظمة الإخوان المسلمين في تركيا كما دعمت الإخوان المسلمين في مصر، وربما كان لإيران لولا العامل الإسرائيلي وعلاقاتها مع حزب الله وحماس والجهاد شأن آخر مع الثورة السورية وموقفا مختلفا من هذه الثورة التي كانت منذ انطلاقتها في العام 2011 تحمل طابعا إسلاميا أكثر منه علمانيا…
كما أن احتمال التوصل إلى اتفاق أمني بين سورية وإسرائيل برعاية أمريكية خلال تواجد الرئيس الشرع في نيويورك، والحديث عن احتمالات عقد اجتماع بين الشرع ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، سيؤدي إلى تغيير جوهري على الصعيد الداخلي والخارجي، وهذا ما يسعى إليه الرئيس ترامب منذ أشهر، لأن حدثا كبيرا كهذا يحدث صدمة عنيفة في الشارع العربي بعد مائة عام عداء بين سورية وإسرائيل استمر مائة عام، وهذه الصدمة تحتاجها جميع الأطراف في المنطقة، وأكثر ما يحتاج إليها ترامب نفسه ليظهر كرجل سلام، وذلك لامتصاص الغضب العربي العارم الذي تسببت به عمليات الإبادة الجماعية ضد أبناء غزة وتهجيرهم، وعمليات القصف على العاصمة القطرية الدوحة بحجة استهداف قيادة حماس والوفد المفاوض لوقف إطلاق النار في غزة، مع العلم أن قطر هي الدولة الوحيدة التي كانت ترتبط بإسرائيل بعلاقات خاصة منذ سنوات أكثر من أي دولة أخرى.
وهكذا من المتوقع أن تمارس إدارة ترامب ضغوطا كبيرة على الرئيس الشرع لعقد اجتماع مع نتنياهو، وذلك لامتصاص الغضب العالمي ضد إسرائيل من جهة، ولإظهار ترامب بأنه رجل سلام من جهة ثانية، ولإحراج الفلسطينيين وبخاصة فرنسا والسعودية اللتين قدمتا مشروع قرار للاعتراف بحق الدولتين دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، الأمر الذي عارضته بقوة أمريكا وإسرائيل، وحذرت واشنطن من أن إسرائيل ستقوم بضم الضفة الغربية وتقويض السلطة الفلسطينية…
ولا شك أن ما قاله الرئيس السوري أحمد الشرع من على شاشة الأخبارية السورية ربما لا يستطيع قوله في نيويورك، لأن المكان والزمان والأهداف والظروف مختلفة، عدا عن الضغوط التي سيتم ممارستها على سورية بحجة أن الكرة الآن في ملعبها بعد رفع العقوبات والانفتاح الدولي…
ومع أن المقابلة من أولها حتى آخرها كانت توحي بأن التاريخ هو ما يحكم السياسة السورية أكثر من أي شيء، غير أن الرئيس الشرع حرص أيضا على القول: إن ما عليه القيام به يقوم به، وإن الكرة اليوم في ملعب الدول التي تريد أن تقيم علاقات مع سورية دون أن تثير المزيد من المشكلات حولها….
بعد تسعة أشهر من التحرير يمكن القول: إن ما تحقق لسورية كان من الصعب تحقيقه، وربما ستبقى القضايا التي تحدث عنها الشرع لسنوات هي المواضيع التي تشغل السوريين، وعلى وجه الخصوص الوضع في السويداء، وشرق الفرات، والعلاقات مع روسيا، وإيران، والمفاوضات مع إسرائيل، والانتخابات، والدستور الدائم، وبناء المؤسسات، وإعادة الإعمار في المناطق الأكثر دمارا جراء الحرب مثل الغوطة الشرقية وشرق حلب وشمال حماة ومناطق في حمص ودير الزور وإدلب……

