تشكل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى نيويورك للمشاركة في الدورة السنوية الثمانين لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حدثًا تاريخيًا استثنائيًا، يمثل محطة فارقة في مسار سوريا ما بعد نظام الأسد، وعلامة على تحول جيوسياسي عميق في العلاقات الدولية. هذه الزيارة – التي جاءت بعد عقود من العزلة الدولية لسوريا – لم تكن مجرد حضور بروتوكولي عادي، بل حملت دلالات متعددة حول مستقبل الدور السوري الإقليمي وطبيعة التحالفات الدولية في مرحلة ما بعد الصراع.
دلالات الزيارة وأبعادها الاستراتيجية
كسر العزلة الدولية
تمثل الزيارة قطيعة مع العزلة الدولية لسوريا التي امتدت عقودًا عديدة، حيث يشهد على ذلك سلسلة اللقاءات الحافلة التي جمعت الشرع مع العديد من رؤساء دول العالم، بما في ذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان . هذا الحضور الدبلوماسي الكثيف يمثل اعترافًا عمليًا بالشرعية الدولية للرئيس الشرع، ويعكس الرغبة الغربية في فتح صفحة جديدة مع سوريا بعد سنوات من الصراع.
إعادة تعريف المصالح
ركز خطاب الرئيس الشرع خلال الزيارة على تقديم صورة سوريا الجديدة التي تسعى إلى الاستقرار وإعادة الإعمار وبناء دولة القانون، مع طمأنة الجميع بأن “سوريا الجديدة لن تكون مصدر تهديد لأي من جيرانها” . وقد أشار الشرع إلى أن “هناك مصالح متطابقة، لا أقول متقاطعة، ما بين سوريا والغرب وأميركا في المرحلة الحالية”، معتبرًا أن هناك “أشياء كثيرة يمكن البناء عليها ما بين سوريا والولايات المتحدة والغرب بشكل عام” .
المواقف الدولية من الزيارة
الموقف الأمريكي والأوروبي
أظهرت التصريحات الرسمية الأمريكية والأوروبية ترحيبًا بالتحول السوري، حيث صرح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو أنه ناقش مع الرئيس الشرع “الأهداف المشتركة في سوريا، لجعلها مستقرة وذات سيادة”، إضافة إلى “الجهود المتواصلة لتحقيق الأمن والازدهار لجميع السوريين” . كما أكد قادة الاتحاد الأوروبي التزامهم بزيادة الحوار السياسي مع سوريا، وتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة، ودعم الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي من أجل إعادة إعمار سوريا .
الجانب الاقتصادي والاستثماري
شكلت اللقاءات الاقتصادية التي عقدها الشرع في نيويورك محورًا مهمًا من محاور الزيارة، حيث عقد على طاولة مستديرة نظمتها غرفة التجارة الأمريكية ضمت ممثلي 39 شركة أمريكية وعالمية كبرى مثل غوغل، مايكروسوفت، شيفرون، بوينغ، ماستركارد، وفيزا . وقد مثلت هذه اللقاءات فرصة لمناقشة فرص الاستثمار المتاحة في سوريا، والإمكانات الاقتصادية في مجالات التكنولوجيا والطاقة والبنية التحتية والصحة.
العلاقات الروسية السورية في مرحلة ما بعد الأسد
إرث التاريخ والتحول الجديد
تمر العلاقات الروسية السورية بمرحلة إعادة تعريف بعد سقوط نظام بشار الأسد، الذي كان حليفًا تقليديًا لروسيا واعتمد على دعمها العسكري والسياسي طوال سنوات الصراع . فقد دعمت روسيا حكومة الأسد منذ بداية الصراع السوري عام 2011 سياسيًا، ومنذ سبتمبر 2015 من خلال المشاركة العسكرية المباشرة، مستندة في ذلك إلى علاقات تاريخية ممتدة تعود إلى حقبة الحرب الباردة عندما كانت سوريا حليفًا للاتحاد السوفيتي في معارضة الدول الغربية .
زيارة الشيباني إلى موسكو
تمثل زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو في يوليو 2025 محاولة لتأسيس مرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، حيث اتفق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره السوري على إعادة النظر في جميع الاتفاقيات الثنائية والتطلع إلى علاقات صحية . وقد التقى الشيباني بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقاء وصفته الخارجية السورية بـ”التاريخي”، مما يؤكد انطلاق مرحلة جديدة من التفاهم السياسي والعسكري .
مستويات العلاقة الجديدة
يرتكز الرئيس الشرع في العلاقة مع روسيا على ثلاثة مستويات رئيسية وفقًا للتحليل السياسي:
· القلق من دور روسيا في زعزعة المرحلة الانتقالية، خاصة في ظل وجودها العسكري في الساحل السوري.
· التحوط الاستراتيجي، نظرًا لأن العلاقة مع الغرب غير واضحة، والتحدي الإسرائيلي يلعب دورًا إضافيًا.
· المصالح المتبادلة في ظل العلاقة التاريخية بين البلدين .
التحديات والفرص
التوازن بين الشرق والغرب
تواجه سوريا الجديدة تحديًا دقيقًا في تحقيق توازن استراتيجي بين الشرق والغرب، حيث تحتاج إلى “ناظم دولي جديد يحدث توازنًا بعد الفراغات التي تركها الموقف الغربي” . ويبرز هذا التحدي في ظل التحفظ الأمريكي على عودة روسيا إلى المنطقة، وغياب الحسم الغربي ضد الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة .
الملف الاقتصادي والعقوبات
يشكل رفع العقوبات الاقتصادية، بما فيها قانون “قيصر”، أحد الملفات الشائكة التي تسعى سوريا إلى حلها، حيث اعتبر وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن “تعزيز العلاقات، ورفع العقوبات، والتعافي الاقتصادي، كانت من أهم القضايا التي جرى مناقشتها خلال اللقاءات التي عقدها الرئيس الشرع مع المسؤولين الأميركيين والأوروبيين” . وقد عبر الشيباني عن تفاؤله برفع كامل العقوبات عن سوريا في المدى المنظور.
خاتمة: نحو مستقبل جديد
تمثل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى نيويورك منعطفًا تاريخيًا في المسار السوري بعد سنوات من الصراع والعزلة الدولية. هذه الزيارة لا تعكس فقط تحولاً في الموقف الدولي من سوريا، بل أيضًا إعادة تعريف للتحالفات الإقليمية والدولية في مرحلة إعادة الإعمار.
أما على الصعيد الروسي، فإن موسكو تواجه تحديًا في الحفاظ على مصالحها التاريخية في سوريا مع الاعتراف بالواقع السياسي الجديد، بينما تسعى دمشق إلى تحقيق أقصى استفادة من علاقاتها مع موسكو دون التخلي عن الانفتاح على الغرب. هذا التوازن الدقيق سيشكل محور السياسة الخارجية السورية في المرحلة المقبلة، في وقت تسعى فيه سوريا إلى إعادة بناء نفسها واستعادة دورها في المحيط الإقليمي.
إن نجاح سوريا في تحقيق هذه المعادلة الصعبة – الموازنة بين الشرق والغرب، وجذب الاستثمارات الدولية، وإعادة الإعمار – سيعتمد ليس فقط على براعة دبلوماسيتها، بل أيضًا على قدرتها على تحويل مكاسبها الدبلوماسية إلى واقع ملموس لشعبها، في وقت تواصل فيه مواجهة تحديات اقتصادية وأمنية معقدة.