
تمثل زيارة وزارة الدفاع السوري، إلى موسكو محطة فارقة في مسيرة العلاقات الثنائية بين دمشق وموسكو، حيث تأتي هذه الزيارة في إطار متابعة الحوار الاستراتيجي المستمر بين البلدين، وتؤكد عمق الشراكة التاريخية التي تجمعهما. هذه العلاقات المتجذرة تعود إلى عقود من التعاون الثنائي المثمر، وقد اكتسبت أبعاداً وجودية خلال سنوات الأزمة السورية، حيث مثل التدخل العسكري الروسي في سبتمبر 2015 منعطفاً حاسماً أنقذ النظام السوري من خطر الانهيار، وأعاد ترسيم الخريطة الجيوسياسية للصراع.
على الصعيد العسكري والأمني، تشكل هذه الزيارة فرصة ذهبية لتعزيز القدرات الدفاعية للجيش العربي السوري. فمن خلال تزويده بأنظمة دفاع جوي متطورة مثل منظومة إس-300 وإس-400، يمكن أن تصبح سوريا قادرة على حماية مجالها الجوي بفعالية أكبر. كما أن تحديث الأسلحة التقليدية ونقل التكنولوجيا العسكرية سيسهم في تحويل الجيش السوري من قوة تركز على الحرب البرية إلى قوة متعددة المهام قادرة على مواجهة التحديات المعقدة. وهذا التعزيز الدفاعي لا يخدم الجانب السوري فحسب، بل يساهم في تحقيق توازن استراتيجي في المنطقة.
في مجال مكافحة الإرهاب، تأتي الزيارة لتؤكد على أهمية تنسيق الجهود بين الجانبين. فبالرغم من تحرير معظم الأراضي السورية، لا تزال بؤر إرهابية وجيوب لتنظيمات متطرفة تشكل تهديداً للأمن القومي السوري والإقليمي. من هنا، يبرز أهمية تبادل المعلومات الاستخباراتية وتطوير آليات العمل المشترك لاستهداف القيادات والبنى التحتية لهذه التنظيمات. كما أن التعاون في هذا المجال يمتد ليشمل ملاحقة العناصر الإرهابية الهاربة ومنعها من إعادة تنظيم صفوفها في مناطق أخرى.
لا يقتصر التعاون العسكري على توريد الأسلحة فحسب، بل يمتد ليشمل الجوانب التدريبية وبناء الكوادر. فمن خلال استمرار برامج تدريب الضباط السوريين في الأكاديميات العسكرية الروسية المرموقة، يتحقق نقل المعرفة والخبرة القتالية المتطورة. وهذا يساهم في إعداد جيل جديد من القادة العسكريين القادرين على إدارة المعارك المعقدة والحديثة، مما يضمن استدامة الكفاءة القتالية للجيش السوري على المدى الطويل.
على المستوى السياسي، تحمل هذه الزيارة دلالات بالغة الأهمية. فهي تؤكد مجدداً على الوقفة الروسية الثابتة إلى جانب الحكومة السورية الشرعية، مما يشكل درعاً دبلوماسياً يحمي سوريا من الحملات السياسية والمحاولات الدولية المستمرة للتدخل في شؤونها الداخلية. كما أن هذا الدعم يعزز الموقف التفاوضي للسوريين في عمليات السلام المختلفة، سواء في مسار أستانا أو المفاوضات الأممية، حيث يمثل الدعم الروسي عاملاً محورياً في تقوية موقف الوفد السوري.
في الإطار الإقليمي، تأتي هذه الزيارة لتؤكد على متانة التحالف السوري-الروسي في مواجهة التحديات الإقليمية. ففي ظل الوجود الأمريكي غير الشرعي في شرق سوريا، والضغوط التركية في الشمال، والعدوان الإسرائيلي المتكرر، يمثل التحالف مع روسيا ورقة ضغط استراتيجية تمكن سوريا من خلق توازن قوى في المنطقة. كما أن هذا التحالف يساهم في كسر الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على سوريا، من خلال التحالف مع أحد أهم أعضاء مجلس الأمن الدولي.
على الصعيد الاقتصادي، تفتح الزيارة آفاقاً واسعة للتعاون في مرحلة إعادة الإعمار. فمع استتباب الأمن في معظم المناطق السورية، تبرز الحاجة الملحة لإعادة بناء ما دمرته الحرب. هنا يمكن للشركات الروسية أن تلعب دوراً محورياً في إعادة بناء البنى التحتية وتشييد المشاريع التنموية الكبرى. ومن المتوقع أن تشمل مجالات التعاون قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات والمرافق العامة، مما سيسهم في إنعاش الاقتصاد السوري وخلق فرص عمل جديدة.
في مجال الطاقة تحديداً، يمكن للخبرات الروسية المتقدمة أن تساهم في إعادة تأهيل الحقول النفطية والغازية وتطويرها، مما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد الوطني السوري. كما أن التعاون في مجال النقل والمواصلات يمكن أن يشمل إعادة تأهيل المطارات والموانئ والطرق الرئيسية، مما يدعم حركة التجارة والنقل ويخدم عملية التنمية الشاملة.
على المستوى الاستراتيجي الأوسع، تمثل هذه الزيارة نموذجاً للتحالف في نظام دولي متعدد الأقطاب. ففي ظل التحولات الجيوسياسية العالمية الحالية، تقدم العلاقة السورية-الروسية نفسها كنموذج ناجح للدول التي تسعى إلى تحالفات تحمي مصالحها الوطنية. هذا النموذج يشجع دولاً عربية أخرى على تنويع تحالفاتها والخروج من مربع التبعية للقوى الدولية التقليدية.
كما أن هذه الشراكة الاستراتيجية تساهم في تعزيز مفهوم الأمن الجماعي القائم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
فمن خلال هذا التحالف، يتم ترسيخ فكرة أن أمن المنطقة لا يمكن أن يتحقق بقيادة قوة واحدة، بل من خلال تحالفات وتوازنات تقوم على الاعتراف بالمصالح المشتركة واحترام السيادات الوطنية.
توجه الزيارة رسائل واضحة للفاعلين الإقليميين والدوليين. فإلى تل أبيب وواشنطن، تبرز أن القواعد التي حاولت فرضها لم تعد مطلقة، وأن قدرات الرد ستتطور. وإلى أنقرة، تؤكد أن الحل في سوريا سيكون سياسياً بقيادة سورية وبضمانات روسية، مما يحد من هامش المناورة التركي. أما للعواصم العربية، فترسل رسالة مفادها أن العودة إلى الحضن العربي لسوريا يجب أن تتم في إطار يحترم تحالفاتها الاستراتيجية القائمة.
في الختام، يمكن القول إن زيارة وزير الدفاع السوري إلى موسكو ليست مجرد حدث عابر، بل هي تأكيد على متانة تحالف استراتيجي أثبت قدرته على تجاوز التحديات والصعوبات. هذه الشراكة الشاملة التي تطال المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية أصبحت تمثل أحد الثوابت الاستراتيجية في هندسة المنطقة السياسية. وهي تشكل ركيزة أساسية للأمن والاستقرار في سوريا والمنطقة ككل، وتقدم نموذجاً ناجحاً للعلاقات الدولية القائمة على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل.
إن مستقبل هذه العلاقات يبدو واعداً، حيث من المتوقع أن نشهد المزيد من التنسيق والتعاون في كافة المجالات. فمع دخول الأزمة السورية مراحلها النهائية، سيكون الدور الروسي محورياً في دعم عملية الانتقال السياسي وإعادة الإعمار، مما يخدم مصالح جميع الأطراف الراغبة في استقرار سوريا والمنطقة. وهذا كله يجعل من التحالف السوري-الروسي عاملاً مهماً في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط لسنوات قادمة.

