
والحكومة السورية تراهن على إدارة ترامب لإلغاء قيصر ولجم الاعتداءات الإسرائيلية
رغم أن الهاجس الأمني لا يزال يشغل السوريين في جميع المناطق مع استمرار عمليات الخطف والقتل على خلفيات طائفية وبخاصة في مناطق الساحل، غير أن الوضع في الجنوب السوري يشكل مصدر خطر حقيقي على سورية ووحدتها واستقرارها جراء التصرفات والاعتداءات الإسرائيلية الخطيرة، مع تواصل الجهود بوساطة أمريكية لتوقيع اتفاق أمني على أقل تقدير بين سورية وإسرائيل.
فما يجري في الجنوب السوري لا يعدو كونه محاولة من إسرائيل لتغيير كل الحقائق والوقائع التي حكمت المنطقة خلال الخمسين عاماً الماضية، وذلك لخلق واقع جديد بعد أن سقطت الاتفاقيات والتفاهمات وتداعت القيم التقليدية دون أن يحل محلها مفاهيم وقيم جديدة، حيث يسود الفراغ والفوضى المنطقة، ذلك أن التغيير الذي حصل في سورية بعد انتصار الثورة أكثر ما تجلى على الأرض السورية في تغيرات كبيرة في الجنوب السوري، راحت تحدث آثارها وتجري أحكامها وتفرض نتائجها، دون أن تترك للمتابع أية فرصة لفهم طبيعة وأسباب وأهداف هذه التغيرات بعد محاولات السويداء الانفصال وإسقاط اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 ومطالبة إسرائيل بمنطقة منزوعة السلاح وحرمان سورية من أبسط حقوقها كدولة ذات سيادة عبر احتلال الأرض بالقوة وإقامة الحواجز والتوغل داخل المناطق والمدن السورية في جنوب البلاد بغطاء جوي كامل وبرفقة الدبابات الإسرائيلية وناقلات الجند والآليات العسكرية وترهيب للمواطنين وإطلاق النار واعتقال المدنيين في قراهم واحتجازهم، كما لو أن الجنوب السوري أصبح أرضاً مستباحة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكما لو أن السماء السورية باتت مفتوحة أمام طائرات الاحتلال الحربية وطائراته المسيرة…
وكان أول النتائج الخطيرة لهذه التدخلات نشوب الأزمة في السويداء بعد الأحداث الدامية التي شهدتها المحافظة مدينة وريفاً، حيث عمدت إسرائيل إلى استغلال هذه الأحداث لخدمة مشروعها لإقامة إسرائيل الكبرى عبر تفتيت المنطقة إلى كيانات طائفية ونشر الكراهية والفرقة والحقد محل التآلف والوحدة والمودة تحت عناوين جديدة على القاموس السياسي السوري وهي “حماية الدروز”، حيث تعيش السويداء منذ الخامس عشر من آب حالة من الانفصال عن محيطها وتاريخها وتنقطع الاتصالات إلى حد كبير بين الجغرافيا السورية الجنوبية، وتطالب إسرائيل بممر إنساني من الكرمل إلى السويداء، فيما لا تجد الحكومة السورية من مخرج لهذا الوضع سوى بالعودة إلى التفاهمات السابقة وإعادة النفوذ والعمل مع روسيا الاتحادية لتغيير الوضع الخطير والحد من التدخل الإسرائيلي، ذلك أن الثقة والمصداقية التي تتمتع بها روسيا في مناطق الجنوب تسمح لها بلعب دور رئيسي لإعادة الأمن والاستقرار وتقديم الدعم لحكومة دمشق التي تسعى إلى إعادة الوضع في الجنوب كما كان قبل سقوط نظام بشار الأسد…
وفي مقابل هذه التغييرات الكبرى على الساحة السورية، لا يوجد على أرض الجنوب اليوم سلطة حقيقية تمسك الأرض ولا يوجد سوى الفراغ والفوضى، فيما تستبيح إسرائيل المنطقة التي تمتد على ثلاث محافظات سورية وصولاً إلى مشارف دمشق، وقد وصلت التوغلات الإسرائيلية إلى حد إقامة حواجز إسرائيلية لجنود الاحتلال على طريق السلام على بعد أربعين كيلومترا من العاصمة دمشق. ويكفي الإشارة إلى أن الاتفاق الأمني أو اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 الذي صمد خمسين عاماً سقط بعد التحرير في الثامن من كانون الأول من العام 2024، وسقطت معه كل التفاهمات وكل الوقائع والقيم والتحالفات التاريخية التي كانت تحكم المنطقة، ولم يتبق سوى الفراغ والفوضى في المنطقة، حيث تمنع إسرائيل بقوة السلاح نشر الجيش العربي السوري في تلك المناطق التي كان يتواجد فيها قبل إلغاء اتفاق فض الاشتباك من قبل إسرائيل خمس فرق عسكرية ومئات آلاف الجنود الذين تخلوا عن مواقعهم وتركوا أسلحتهم في الثامن من كانون الأول الماضي، فقامت إسرائيل باستباحة المنطقة واستباحة جميع الأراضي السورية والجغرافيا السورية وبخاصة مناطق الجنوب التي كانت بمثابة جبهة مدججة بالسلاح والتحصينات والقلاع والدشم العسكرية، ولكنها اليوم تخضع عملياً لقوات الاحتلال وتحت سيطرتها أكثر مما هي تحت سلطة الدولة السورية، فأرض الجنوب السوري متاحة لجنود الاحتلال والسماء مفتوحة للطائرات الإسرائيلية وذلك لضعف القدرات والإمكانات لدى الجيش السوري الجديد….
ومن أجل إبقاء هذا الانفلات وهذا الخطر الداهم على سورية وشعبها وحكومتها وجيشها، فقد رفضت إسرائيل التوقيع على اتفاقية أمنية جديدة برعاية أمريكية تعيد الأمور إلى نصابها، وذلك لأن أي اتفاق مع الحكومة السورية سيلجم إسرائيل ويجبرها على احترام السيادة السورية، غير أن حكومة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو ترفض العودة إلى اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 باعتباره سقط مع سقوط النظام، فيما تحاول الحكومة السورية استغلال علاقاتها مع إدارة ترامب وتطالب بوقف الاعتداءات وتوقيع اتفاق جديد، وهو ما ترفضه إسرائيل لأن أطماعها في الجنوب السوري أصبحت واضحة، فهي تدفع باتجاه انفصال السويداء عن الوطن الأم لربطها بالمصالح الإسرائيلية تحت عناوين حماية الدروز من الأخطار التي تحيط بهم، وذلك بعد الهجوم الذي تعرضت له المدينة والذي أوقع مئات القتلى معظمهم من المدنيين الدروز على خلفيات طائفية…..
ورغم مضي عدة أشهر على اندلاع الأزمة في السويداء، فلا يزال الحلم بوحدة البلاد يتلاشى سراباً أمام أعين السوريين جراء التدخلات الإسرائيلية، حيث تتفاقم الأوضاع في الجنوب مع مضي الوقت.
ومع أن سورية تريد التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل ولكن ليس أي اتفاق، فهي تريد أن تحافظ على وحدتها وسيادتها وتريد وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وقد أكد الرئيس أحمد الشرع أن الاتفاق الأمني مع إسرائيل ضروري “شرط احترام وحدة الأراضي والمجال الجوي السوري”.
لكنه شدد على أن التطبيع السياسي ليس مطروحاً الآن، وربط أي خطوة في هذا الاتجاه بمصير الجولان السوري المحتل. ويبدو أن رسالة الشرع مزدوجة تتضمن: الموافقة على اتفاقية أمنية، ورفض التوقيع على اتفاق سلام شامل، وربما هذا أمر تفرضه حالة الحكومة السورية نفسها وهي حكومة انتقالية، وربما تحتاج الاتفاقيات السياسية إلى حكومة منتخبة..
ومع استمرار الاتصالات بين سورية وإسرائيل برعاية أمريكية لأن ترامب يريد أن يحقق بعد اتفاق غزة إنجازاً على الجبهة السورية، غير أن المعلومات تشير إلى أن اجتماعات وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع دان ديرمر مستشار نتنياهو للشؤون الاستراتيجية ومشاركة المبعوث الأمريكي إلى سورية توم باراك لا تزال تراوح مكانها، وهي تتناول مواضيع عدة بمثابة شروط تعجيزية منها: العودة إلى اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، وإنشاء منطقة أمنية منزوعة السلاح تمتد من دمشق إلى السويداء، ومنع سورية من امتلاك أسلحة استراتيجية بما فيها صواريخ ودفاعات جوية، بالإضافة إلى إنشاء ممر إنساني من الكرمل في فلسطين المحتلة إلى السويداء وذلك لتأمين الاتصال بين الدروز في إسرائيل برئاسة الشيخ موفق طريف وبين الدروز في سورية برئاسة الشيخ حكمت الهجري الذي يطالب بالانفصال عن الدولة السورية ويرفض التعاطي مع حكومة دمشق.. كما تطالب إسرائيل خلال المفاوضات بإنشاء ممر داوود الذي يربط بين إسرائيل وشرق الفرات عبر البادية السورية، فيما يبدو أن إسرائيل أيضاً تسعى لتقويض دور قوات الاندوف الأممية واختصار دورها بخدمة المصالح الإسرائيلية، وهذا ما ترفضه الحكومة السورية.
تحاول الحكومة السورية أمام كل هذه التحديات والمشكلات المتشعبة والمتراكمة أن تبحث عن مقاربات جديدة، فلا يمكن تجاوز مائة عام من العداء بين سورية وإسرائيل، ولا يمكن أيضاً تجاوز الوقائع على الأرض، حيث أن السلام في المنطقة وإقامة علاقات متوازنة بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وبين تركيا ودول الخليج أصبحت سياسة سورية واضحة، وهذه السياسة تتناقض كلياً مع سياسة الانغلاق الإسرائيلية، حيث إن إسرائيل لا تشبه أحداً في المنطقة، ولا يمكن محو وتجاوز التاريخ القاسي بين سورية وإسرائيل بهكذا بساطة، حيث تتعارض المصالح الإسرائيلية والسورية في كل الاتجاهات وفي كل الظروف، فيما حكومة الرئيس الشرع في دمشق تراهن على رفع العقوبات الأمريكية عن سورية وعلى الدعم الأمريكي للمطالب السورية والتي أساسها الحفاظ على وحدة سورية، وهذا يتعارض مع الموقف الإسرائيلي الذي يسعى إلى إبقاء العقوبات الأمريكية وقانون قيصر والى تقويض وحدة سورية وانتهاك سيادتها.
ويبدو أن مشكلة السويداء تتحول إلى قضية بين سورية وإسرائيل، ذلك لأن أي اتفاق أمني بين الجانبين يعني إعادة السويداء إلى كنف الدولة، وهذا ترفضه حتى الآن إسرائيل التي تستخدم المحافظة ورقة للمساومة خلال المفاوضات مع حكومة الشرع.. وأي اتفاق أمني أو تطبيع بين حكومة الشرع وإسرائيل يعني أن إسرائيل ستسحب يدها من السويداء، وهذا وفق محللين أمر مستبعد في هذه المرحلة، لأن حماية إسرائيل للدروز باتت ذريعة للتدخل في سورية والضغط على حكومة دمشق لا أكثر ولا أقل…
وفي ظل الظروف الصعبة التي تمر بها سورية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، ورغم كل النجاحات التي تحققت فعلياً خلال فترة قصيرة حيث استطاعت حكومة الشرع فتح الأبواب التي كانت مغلقة مع أوروبا والخليج ومع عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، إلا أن العلاقات بين حكومة دمشق وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل هي التي تحدد في نهاية المطاف مستقبل سورية، ورغم اختلال موازين القوى على طاولة المفاوضات بين إسرائيل وسورية برعاية أمريكية، إلا أن الحاجة إلى دخول أطراف دولية وإقليمية كروسيا وتركيا لكسر التفوق الإسرائيلي ولجم حكومة الاحتلال التي وسعت شروطاً تعجيزية مرفوضة من قبل الحكومة السورية، بالتالي فالصراع مستمر لحين خلق توازن حقيقي مع العدو الإسرائيلي، ويبدو أن زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو منتصف تشرين الأول ولقائه مع الرئيس بوتين كانت تهدف إلى تحريك المفاوضات السورية الإسرائيلية وإعطاء روسيا دوراً فاعلاً في الجنوب السوري للجم التمدد الإسرائيلي وتحقيق نوع من التوازن مع إسرائيل المدعومة من أمريكا، خاصة في ظل تلاقي مشروع نتنياهو حول إقامة إسرائيل الكبرى مع مشروع ترامب حول الشرق الأوسط الجديد، وسعي ترامب لفرض وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية عبر ضم سورية إلى هذه الاتفاقيات في محاولة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي الذي يدخل بعد حرب غزة ولبنان والثورة السورية وحرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران مرحلة جديدة.

