قلبت الانتخابات البرلمانية في فرنسا الطاولة رأسا على عقب على النظام الأوروبي برمته وليس على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فحسب، وزلزلت الأرض تحت أولئك الذين يدعون لتوسيع الحرب ضد روسيا. وأذلت نتائج الانتخابات ماكرون الذي لم يعد ذلك الصقر الأوروبي الذي يتكلم بلسان جو بايدن وزيلينسكي عندما يتعلق الأمر بدعم أوكرانيا بالأسلحة والمرتزقة وجنود الناتو بعد أن عاش حقيقة وحتمية انتصار روسيا ونجاحها وتحقيق كامل أهدافها من العملية العسكرية في الدونباس.
لقد محا اليمين الفرنسي في الدورة الأولى للانتخابات البرلمانية آخر سطر خطّه ماكرون في سياساته الأطلسية الهدامة للسلام في أوروبا بعدما نصب نفسه مدافعا عن نظام زيلينسكي النازي وراح مع كل نجاح ميداني روسي يتبجح وينادي ويصرخ مطالبا بإرسال قوات أطلسية إلى أوكرانيا لنجدة نظامها من السقوط.
في ضوء نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية التي فاز فيها اليمين الفرنسي بزعامة ماري لوبان وجوردان بارديلا بنسبة 34 بالمئة من الأصوات، فإن الرعب سيطر على ماكرون الذي دعا إلى التصويت بكثافة لمنع اليمين من الوصول إلى السلطة في الدورة الثانية والحاسمة. في وقت شهدت العاصمة باريس والمدن الفرنسية أحداث عنف وفوضى، أحرق خلالها المتظاهرون المحلات التجارية وحاويات القمامة فيما كانت لوبان وبارديلا يحتفلان بالنصر.
ردود الفعل على خسارة ماكرون جاءت من موسكو التي اعتبرت أن سبب خسارة ماكرون دعوته إلى إرسال قوات إلى أوكرانيا وحملته المعادية لروسيا وتخويف الغرب منها وقالت إن الشعب الفرنسي يريد السلام ولا يريد الحرب التي يدعو إليها ماكرون.
ومن المتوقع أن يحضر ماكرون قمة الناتو في واشنطن في التاسع من تموز الجاري، وذلك بعد يومين من الانتخابات الفرنسية المقررة في السابع من الجاري التي بات العالم يترقبها بفارغ الصبر بعد أن أعطت نتائج الدورة الأولى إشارات واضحة إلى التحولات الكبيرة التي تنتظر فرنسا والقارة العجوز من ورائها. فقد حصل اليمين الفرنسي بزعامة لوبان، التي تدعو إلى وقف الحرب في أوكرانيا وإقامة أفضل العلاقات بين باريس وموسكو، على أفضل نتيجة له منذ الحرب العالمية الثانية، وحصد حزب التجمع الوطني بزعامة جوردان مارديلا وماري لوبان الصدارة بنسبة 34.2 بالمئة من الأصوات، وائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري بزعامة جون لوك ميلانشون زعيم حزب فرنسا الأبية اليساري في المركز الثاني بنسبة 29.1 بالمئة، وجاء ائتلاف الرئيس إيمانويل ماكرون في المركز الثالث بنسبة 21.5 بالمئة. وبهذه النتيجة يخسر حزب ماكرون 160 مقعدا فيما حصل حزب اليمين بزعامة لوبان على 270 مقعدا. هذه النتائج تشير إلى انقلاب حقيقي ليس في فرنسا وإنما في أوروبا كلها ويمكن أن يؤدي إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي وإلى إعادة العلاقات بين الغرب وروسيا وإلى تغييرات اجتماعية وسياسية عميقة لأن فرنسا تريد أن تعود إلى فرنسيتها وألمانيا تريد أن تعود إلى ألمانيتها وكل الدول الأوروبية تريد أن تعود إلى نفسها كما عادت بريطانيا وانفصلت عن الاتحاد الأوروبي بعد عشرين عاما من الوحدة مع أوروبا.
ما حدث في فرنسا سوف تكون نتائجه كبيرة على العالم كله ولا ندري إذا كان ماكرون الذي انقلب على نفسه بدعوته لحل الجمعية الوطنية سيكمل انقلابه بالدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة إذا ما تعذر عليه مواصلة ولايته مع رئيس حكومة يميني على الأغلب جوردان بارديلا رئيس حزب التجمع ولكن علينا الانتظار إلى السابع من تموز موعد جولة الانتخابات الثانية لنرى إلى أي الجانبين تميل فرنسا.
الرهان اليوم قبل أيام من الحسم على أولئك الذين امتنعوا عن التصويت وهؤلاء برروا ذلك بالقول إن الاقتراع لهذا الطرف أو ذاك لن يغير كثيرا فرأس المال هو الذي يسيطر على المشهد السياسي العام واصفين رجال السياسة بالدمى في إشارة إلى الرئيس ماكرون وفريقه.
وفيما اعتبرت موسكو أن هذه النتائج هي رد فعل غاضب من الفرنسيين ضد الرئيس ماكرون الذي ركز حملته الانتخابية على ضرورة هزيمة روسيا في الحرب مع نظام زيلينسكي فقد جاءت ردود الفعل الأوروبية متباينة، وعبرت ألمانيا عن قلقها بعد فوز اليمين في فرنسا وقبلها في إيطاليا، وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك: “لا يمكن لأحد أن يصبح غير مبال عندما يتصدر بشكل كبير حزب يرى أن أوروبا هي المشكلة وليست الحل، وهذا الحزب في بلد هو أقرب شركائنا وأفضل أصدقائنا”، مشيرة إلى أن ألمانيا وفرنسا تضطلعان معا بمسؤولية خاصة حيال أوروبا الموحدة.
أما بولندا الشريكة في الحرب ضد روسيا فقد أصابها الرعب والخوف جراء نتائج الانتخابات الفرنسية في الدورة الأولى واعتبرت أن روسيا تقف وراء هذه النتائج. حذّر رئيس وزرائها دونالد توسك، من أن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية المبكرة تعكس “اتجاها خطيرا” لفرنسا وأوروبا، مشيرا إلى تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا، والنفوذ الروسي داخل هذه الأحزاب في أوروبا، وقال إنهم معجبون بالرئيس بوتين.
إن ما حصل في الدورة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية ليس إلا مقدمة لما سيحصل في الدورة الثانية. هزيمة لماكرون ولمشروع بايدن وزيلينسكي ولكل الذين يرفضون وقف الحرب في أوكرانيا بعد أن قدمت موسكو كل متطلبات السلام وأعلن الرئيس بوتين عن مبادرة متكاملة وشاملة تضع حدا للحرب التي أثبت الجيش الروسي والقوات الجوفضائية الروسية والأسطول الروسي أن لهم اليد العليا فيها.
يحيى كوسا
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط