رغم أن حرارة التصفيق والهيجان داخل الكونغرس الأمريكي خلال إلقاء رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي خطابه لم تترك مجالًا للشك حول متانة العلاقات بين الولايات المتحدة وكيان الاحتلال والتي أكدها جميع رؤساء أمريكا، ومنهم جو بايدن خلال لقائه نتنياهو في واشنطن معلنًا التزامه الكامل بأمن إسرائيل وحمايتها والدفاع عنها.ورغم هذا المشهد الذي تصدر كل وسائل الإعلام، فإن ثمة أمور لابد من ذكرها قبل أن نتعرف على الرسائل التي أراد نتنياهو إيصالها إلى الداخل الأمريكي وإلى العالم، وفي مقدمتها أن أكثر من ثلاثين نائبًا من الحزب الديمقراطي قاطعوا الجلسة. كما أن رؤية جيري نادلر، النائب الديمقراطي الذي حضر الجلسة، وهو يقرأ في كتاب بينما التصفيق يعلو من حوله، كانت لحظة في غاية السخرية من نتنياهو نفسه، عدا عن اللافتة التي رفعتها رشيدة طليب، النائبة في الكونغرس من أصول فلسطينية، وقد كتب عليها “نتنياهو مجرم”.
ورغم كل التصفيق وحالة الهستيريا التي عاشها النواب وهم يتابعون على مدار ساعة كاملة على الواقف خطاب نتنياهو، إلا أن أصوات التظاهرات خارج الكونغرس والمحتجون الذين حملوا نعوشًا رمزية للأطفال الفلسطينيين الشهداء كانت تحمل معاني لا يستطيع التصفيق مهما علا محوها أو إخفاءها، لأنها الحقيقة. أما التصفيق بهذه الوقاحة والاستخفاف بعقول الناس فهو نوع من العنصرية والحقد أكثر من كونه كذبا ونفاقا.
كل المقاربات التي ذكرها نتنياهو على مدار الساعة ومخاطبته الجنود الذين رافقوه إلى الكونغرس بالأبطال وهم قتلة أطفال غزة كانت بعيدة عن الواقع. فهو شبه السابع من تشرين الأول بهجمات الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأمريكية لكي يثير الجمهور الأمريكي بأن جيش الاحتلال يقاتل الإرهاب وليس أصحاب الأرض وأصحاب الحقوق. إن هذا التشبيه الذي صفق له نواب أمريكا طويلًا هو بعيد عن الواقع، ولا يمكن تشبيه الوضع في فلسطين وهي القضية المركزية لكل الشعوب الحرة في العالم. فالإرهابي الحقيقي هنا هو إسرائيل وحكومتها وليس أبناء قطاع غزة وأبناء القدس والضفة الذين يدافعون عن أرضهم.
نتنياهو جاء إلى واشنطن ليغطي جريمته ويشارك أعضاء الكونغرس الأمريكي فيها لأن دماء أبناء غزة وأطفال غزة تستصرخ الضمير العالمي، ولا يمكن للكذب والنفاق بهذا الشكل أن يغطي على المجزرة الرهيبة المتواصلة في غزة.
لم يكن نتنياهو ضيفًا في الولايات المتحدة الأمريكية، بل كان الكونغرس وبايدن ونائبته كامالا هاريس ضيوف نتنياهو، ولم يظهر الأمريكيون حماسة لأي رئيس أمريكي منتخب ما أظهره أعضاء الكونغرس الأمريكي لنتنياهو الذي كان يتحدث عن التاريخ ويدعو إلى تسليح جيشه وكيانه وكان يزداد عنصرية وشراسة كلما اقترب من نهاية الخطاب. وقد تمحور حول ثلاثة مواضيع أساسية وهي: الوضع في غزة وجبهات الإسناد، وأعلن نتنياهو أن الحرب مستمرة ولن تتوقف حتى استعادة الأسرى من حماس والقضاء على حكم حماس في قطاع غزة. أما الموضوع الثاني فكان العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة. وفي هذا الموضوع بدا نتنياهو خائفًا ومذعورًا وكيانه يواجه خطرًا وجوديًا، وبدون الدعم والحماية الأمريكية لا يمكن لهذا الكيان المسخ أن يستمر. ولهذا كان النواب الأمريكيون يصفقون وكأنهم يقولون لنتنياهو لا تخف يا عزيزي، فنحن حميناكم في حرب تشرين التحريرية ومنعنا إنهاء كيانكم في العام 1973، ونحن أيضًا حمينا كيانكم في السابع من تشرين الأول عام 2023 خلال عملية طوفان الأقصى من السقوط والانهيار، وأرسلنا حاملات الطائرات وكنا نقود معكم المعركة ومنعنا انهيار كيانكم وإنهاء دولتكم. هي رسالة من طرف واحد، فنتنياهو يطلب الأسلحة لتحقيق النصر ويطلب من أمريكا الحماية ويطلب منها تشكيل تحالف عربي لمواجهة إيران. وهذه هي الرسالة أو العنوان الثالث الذي شغل حيزا كبيرا من خطابه وهو العدوانية والعنصرية تجاه إيران… كان نتنياهو يخاطب أعضاء الكونغرس ويقول لهم شعار الثورة الإسلامية في إيران هو الموت لإسرائيل والموت لأمريكا، وهذا يعني حسب نتنياهو أن إسرائيل ستتعرض للهجوم والإبادة في البداية ومن ثم يأتي دور أمريكا. كل هذه الكلمات لا تعدو تخرصات وأكاذيب، ولا يمكن أن نصف إسرائيل التي تقتل الأطفال بأنها من محور الخير، وأن إيران التي تدعم المقاومة وتنصرها هي محور الشر. هذا كذب وتغييب للحقيقة.
يوم الأربعاء ٢٤/٧/٢٠٢٤ هو يوم أسود في تاريخ الكونغرس الأمريكي والإدارة الأمريكية الحالية التي رفضت الإنصات لصوت الشعب الأمريكي.
ردود الفعل على خطاب نتنياهو المتخم بالأكاذيب والتضليل بدأت من اللحظة التي انتهى فيها الخطاب، حيث اعتبرته النائبة الديمقراطية نانسي بيلوسي أسوأ خطاب أمام الكونغرس لمسؤول خارجي. كما وصف عضو مجلس الشيوخ، السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي الخطاب بأنه بمثابة انتكاسة للعلاقات مع أمريكا، وقال إن هدفه تعزيز مكانة نتنياهو السياسية، وبدوره قال السيناتور بيرني ساندرز إن جميع المنظمات الإنسانية تتفق على أن عشرات الآلاف من الأطفال يواجهون المجاعة لأن حكومة نتنياهو المتطرفة تستمر في منع المساعدات، مشيرًا إلى أن الإسرائيليين يريدون خروج نتنياهو من منصبه، ولذلك جاء إلى الكونغرس للقيام بحملة انتخابية.
لن يستطيع نتنياهو بخطابه أمام الكونغرس الأمريكي تخطي الأزمة السياسية التي تمر بها حكومته أو إضفاء الضبابية على القرارات الدولية والأحكام القضائية الدولية، ولن تفيده إدارة بايدن شريكته في العدوان على غزة التي تعاني هي الأخرى من مشاكل في الحكم جراء الوضع الصحي للرئيس الأمريكي والدعوات المتزايدة للاستقالة من منصبه.
إن إعلان نتنياهو بأنه يعتز بالصهيوني بايدن ويعتز بصهيونيته يلخص المشهد ويظهر أن ما يتم الحديث عنه من خلافات بين نتنياهو وبايدن هو محض كذب.
أكثر من ساعة من التصفيق على الواقف كانت رسالة إلى العالم العربي بشكل خاص بأن أمريكا ستبقى تتحمل المسؤولية عن أمن كيان الاحتلال، وأن أمريكا الشريكة في سفك الدم البريء في غزة مستمرة في نهجها بعد الانتخابات وقبلها، ديمقراطية كانت أم جمهورية.
لم يغير نتنياهو كلمة واحدة من خطابه العنصري المعروف، وهو يريد مواصلة الحرب حتى آخر فلسطيني في غزة بذريعة أن حماس لا تطلق الأسرى، وأنه يريد تحقيق أهداف الحرب بالقضاء على حماس. مع أن المقاومة حتى الآن لا تزال تسيطر على كامل القطاع إداريًا، ولم يتمكن جيش الاحتلال المهزوم من وقف المقاومة المتصاعدة التي تكبد الاحتلال خسائر مادية وبشرية، عدا عن جبهات الإسناد التي خصها نتنياهو في خطابه أمام الكونغرس بالتهديد والوعيد، واعتبر أن هذه المقاومة تهدد أمريكا وإسرائيل معًا. ودعا الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف لمحاربة إيران ومحور الشر كما سماه، وقال إن الشرق الأوسط يواجه محور الإرهاب الإيراني…
حقًا إذا لم تستح فافعل ما شئت… هذا هو حال نتنياهو، لا يستحي من العار ولا يكترث بالهزيمة. هو يزعم أن المقاومة إرهاب وأن المعركة ليست بين كيانه والمقاومة، وإنما المعركة بين البربرية والحضارة التي يمثلها كيانه. كيف يمكن أن تكون الحضارة قاتلة ولا تكترث لأكثر من عشرين ألف طفل فلسطيني استشهدوا؟ وكيف يمكن أن يغطي نتنياهو جرائمه بالتصفيق ويمحو عاره بالهتاف ومئات الآلاف حول العالم يجوبون الشوارع يطالبون بوقف الحرب ومحاكمة نتنياهو؟
والسؤال: هل استطاع الخطاب في الكونغرس أن يغير صورة نتنياهو من مكانها في عقول الرأي العام ولو قليلا؟ وكيف يحاضر في الإنسانية والحضارة من يقتل الأطفال في المهد والنساء والشيوخ ويهدم المنازل والمدن فوق رؤوس ساكنيها؟
كان نتنياهو كالجراثيم الانتهازية التي تهاجم الجسد بعدما تضعف مناعته. إذ كيف له أن يبشر بازدهار المنطقة إذا تم القضاء على حماس ونزع سلاحها كما ازدهرت اليابان وألمانيا بعد نزع سلاحهما؟ لماذا يأخذ القاتل نتنياهو هذه العبر والدروس من التاريخ بشكل معكوس؟ أليس وقف الحرب والامتناع عن القتل أفضل من تكرار الحروب وإعادة سيرتها مجددًا وجعل الناس يعيشون ويلاتها؟ لماذا يجعل نتنياهو الفلسطينيين اليوم في موقع اليهود خلال الهولوكوست وهم أصحاب الأرض وأصحاب الحضارة؟ ولماذا الادعاءات الكاذبة واستحضار التاريخ الديني الغابر والعنصري؟ كيف يمكن أن تقتل شعب غزة باسم الدين وباسم الحضارة تحت عنوان أنهم إرهابيون؟ وإذا كان ما تقوله صحيحًا، أن حماس إرهابية وأنصار الله إرهابيون والمقاومة في لبنان إرهابية، فماذا نسمي قوات الاحتلال الإسرائيلي التي ترتكب المجازر وحرب الإبادة الجماعية منذ أكثر من عشرة أشهر؟ وماذا نسمي قرار محكمة العدل الدولية باعتقال نتنياهو بكونه مجرم حرب موصوف؟
هيهات أن يمحو التصفيق العار، وهيهات أن يستعيد الصهاينة قوة الردع، وهيهات أن تعود لإسرائيل وأمريكا السطوة والهيمنة على المنطقة، فالعالم يتغير من حولهم. وليس أمام نتنياهو الذي يتحدث عن النصر إلا الاعتراف بالفشل والهزيمة، وسيكتشف بعد مضي الوقت أنه يعود من واشنطن ومن همروجة التصفيق في الكونغرس بخفي حنين.