واقعيّة الرؤية السياسية المنسجمة مع الجذور الفكرية المناقضة للنظام الغربي لقوات “قسد” وحدها تستطيع إخراج منطقة الجزيرة السورية من اضطرابات لن تنتهي حتى لو فشلت عملية العبور.
تتالت الأنباء عن اندلاع اشتباكات متجدّدة بين قوى عسكرية لعشائر عربية عبرت نحو الضفة الشرقية لنهر الفرات، وبين قوات “قسد” المختلطة من قيادات كردية وعناصر من عشائر عربية أيضاً، في منحى جديد للصراع المندلع في إقليم غرب آسيا، بعد مضي عام على المحاولة السابقة لتغيير الواقع الميداني الذي تهيمن عليه قوى الاحتلال الأميركي التي دخلت إلى المنطقة بشكل غير شرعي وقانوني كما هي قوى الاحتلال التركي، فما مصير هذا الصراع الجديد؟ وما هي مآلاته؟
على الرغم من أن ظاهر المعارك هو بين عشائر عربية وبين قوات “قسد” التي يشكّل فيها المقاتلون من عشائر عربية 70% من مجمل قواتها التي تتجاوز الـ 60 ألف مقاتل، وأن الدوافع الظاهريّة للعبور والهجوم هو ردة فعل على تهميش العرب في مناطق دير الزور وريفه الشرقي واحتكار الثروة والسلطة، وفي مقابل ذلك هناك شريحة من الكرد السوريين وجدوا في الحرب السورية فرصة ذهبية لترسيخ واقع سياسي واقتصادي واجتماعي جديد في شمال وشرق سوريا، بسيطرتهم على سلة الغذاء السورية ومنابع النفط والغاز.
ولكن حقيقة الأمور ليست بهذه البساطة فالمواجهات المستمرة التي لن تتوقّف إلا بعنوان الهدن الضمنية، هي ذات أبعاد أكبر بكثير من أن تكون ذات طابع محلي.
واقع جديد أفرزته مواجهات السابع من أكتوبر وما بعدها من عمليات حربية مباشرة أم إسنادية بين قوى المقاومة في ساحات غرب آسيا، وبين النظام الغربي برأس حربته الصهيونية، وبعد مضي أكثر من 300 يوم من أطول حرب يخوضها الكيان الصهيوني، ووصول الإقليم إلى حافة الانفجار بعد اغتيال كلّ من رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في طهران والرجل الأول من الناحية العسكرية فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت العاصمة، وهذا الواقع يدفع المنطقة إلى خيارات استقطابية بين دول المنطقة وقواها السياسية التي تعاظمت رهاناتها واصطفافاتها بشكل حاد حتى بصَمْتها الذي يعبّر عن اصطفافها.
وهذا الواقع في سوريا لا ينفصل عن إطار الصراع بمستوياته الثلاث محلياً وإقليمياً ودولياً، وهو بطبيعة الحال ينطبق على ما يحصل في منطقة الجزيرة السورية وفي مناطق شمال غرب سوريا وفي جنوبها، حيث تتواجه القوى الإقليمية والدولية لتظهر وكأنها ذات أبعاد محلية لمن ينظر إليها بالمنظار المحلي، ولكن طبيعة مواقف القوى المحلية تعبّر عن امتداد حالات الاستقطاب، وقد يختصر موقف القوى العسكرية والسياسية الصامت من حرب الإبادة “الإسرائيلية” الغربية لفلسطينيي غزة من جهة، والموقف الشامت أو الصامت لاغتيال كلّ من إسماعيل هنية وفؤاد شكر طبيعة هذه الاستقطابات.
ومن هنا لا يمكننا النظر إلى المعارك والمواجهات التي اندلعت من جديد في مناطق دير الزور شرق الفرات إلا توسيعاً لرقعة المواجهات، وإعادة منطقة الجزيرة السورية إلى ساحات المواجهة من جديد، بعد أن توقّفت عمليات المقاومة ضد الاحتلال الأميركي في إثر عملية التنف بطائرة مسيّرة والتي أودت إلى مصرع ثلاثة جنود أميركيين وفقاً لاعتراف الجهات الأميركية الرسمية، وما تلاها من عملية اغتيال لقادة من المقاومة العراقية وتصاعد المواجهات مع الأميركيين في العراق وسوريا، والتي انتهت بمطالبة البرلمان العراقي بخروج قوات الاحتلال منه، وتحايل الإدارة الأميركية على ذلك بوعد كاذب وبعناوين جديدة.
ويؤكّد طبيعة هذه المواجهات وجود قوات روسية وقوى عسكرية إيرانية استشارية تدريبية، بالإضافة إلى قوات من الجيش السوري، تقدّم الدعم الكامل لقوى من العشائر العربية في عبورها لنهر الفرات والعمل على الوصول إلى الأميركيين وحصارهم ودفعهم للخروج، والأمر لا يمكن أن يتحقّق من دون كسر طوق حماية قوات “قسد” لقوات الاحتلال الأميركي.
وهي معادلة لا بدّ لها من الحصول حتى تنجح العملية، وفي الوقت نفسه يدرك الأميركيون مخاطر كسر حلقة الحماية هذه عليهم، وهذا ما دفع بطيران قوى التحالف الدولي “الغربي الأميركي” إلى التدخّل المباشر لمنع نجاح كسر حلقة الحماية.
أرادت قوى المقاومة من هذه العملية رفع مستوى الضغوط على الأميركيين ومعهم الإسرائيليون ما قبل الردّ العسكري المرتقب، وإيصال رسائل واضحة لهم بأن استمرار تموضعهم وتهديداتهم للوصل البري بين سوريا والعراق وحتى شانغهاي عبر إيران، لا يمكن أن يستمر والأمر يتطلّب خروجهم من العراق وسوريا، وهذا ما أوصلته الرسائل السابقة قبل العبور إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، بضربات متلاحقة لهم في قاعدة الأسد غرب العراق وحقل كونيكو في سوريا.
وبغض النظر عن نتائج المواجهات شرق الفرات فإن واقع منطقة غرب آسيا على حافة تغيير كبير في معادلات القوة، فما أنتجته عملية “طوفان الأقصى” من تداعيات هو بمثابة زلزال كبير وصلت تصدّعاته وارتداداته العنيفة إلى مراكز القرار العالمي الغربي الوحيد القطب الذي يكافح لأجل بقائه، بالإضافة إلى القوى الآسيوية الناهضة التي تُثَبِّت أركان نظام دولي جديد متعدد الأقطاب قد تحقّق وينتظر اعتراف النظام الدولي القديم بهزيمته.
واقعيّة الرؤية السياسية المنسجمة مع الجذور الفكرية المناقضة للنظام الغربي لقوات “قسد” وحدها تستطيع إخراج منطقة الجزيرة السورية من اضطرابات لن تنتهي حتى لو فشلت عملية العبور، فنحن أمام ولادة جديدة صعبة لمشرق جديد تكون فيه الأدوار والحقوق والواجبات مرتبطة بالموقف العدائي الواضح للنظام الغربي و”إسرائيل”، بينما الصمت يساوي القبول بنتائج حرب الإبادة الغربية “الإسرائيلية” للفلسطينيين.