لم تعد الحرب في الدونباس وكورسك بين الجيش الروسي والقوات الأوكرانية محدودة ومحصورة ضمن جغرافيا هاتين المنطقتين، بل أصبحت الحرب أقرب إلى حرب عالمية تشارك فيها أطراف دولية وإقليمية واسعة وبخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والناتو عموما. هذه الدول قررت خلال اجتماع رامشتاين الأخير تزويد نظام كييف بكل ما يحتاجه من أسلحة وأموال بسخاء وبدون حساب لتوسيع الحرب. ورغم كل التحذيرات الروسية، فقد أعلنت واشنطن أنها ستقوم بتزويد نظام زيلينسكي بصواريخ أتاكمز التكتيكية بعيدة المدى لضرب المدن الروسية والمطارات، بالإضافة إلى أنظمة الدفاع الجوي وتخصيص أكثر من 62 مليار دولار لمواصلة الحرب في حال فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، التي أظهرت حالة من الهوس العدواني تجاه روسيا خلال المناظرة التلفزيونية مع المرشح الجمهوري دونالد ترامب. وهاجمته بعنف مدعية أنه لولا بايدن وإدارته، كانت القوات الروسية داخل كييف، فيما اتهم ترامب إدارة بايدن بتبديد الأموال وصرف مئات المليارات دون فائدة، لأن لا أحد يستطيع أن ينتصر على روسيا.
الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي يصارع من أجل فوز مرشحته كامالا هاريس في الانتخابات، يجيّر الحرب في أوكرانيا لصالح حملته ويعتبر أن هزيمة روسيا هاجسه الأول والآخر. ويصر على تزويد القوات الأوكرانية بأسلحة متطورة لضرب عمق الأراضي الروسية. ورغم أن روسيا لديها الكثير من الحلول الجاهزة وهي تخوض حربا شاملة وواسعة مع الناتو مجتمعا، ليس في ساحات القتال في كورسك والدونباس فقط، بل على مختلف الساحات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والأمنية والثقافية والإعلامية، وفي كل هذه المعارك والساحات، استطاعت أن تظهر فاعليتها وأن تترجم رؤيتها الجديدة للعالم وأن تثبت مصداقيتها.
ومع أن الاهتمام الأمريكي يتركز على الأوضاع الداخلية خلال الانتخابات كالصحة والإجهاض والهجرة، إلا أن الصراع في أوكرانيا كان حاضرا منذ انطلاق الحملات الانتخابية والترشيحات بالنظر إلى طبيعته في تحديد موازين القوى الدولية والأدوار المستقبلية لكل هذه القوى التي تنخرط في هذه المواجهة، وهي لا تقتصر على ساحات القتال، بل تمتد غربا إلى أوروبا وشرقا إلى أوراسيا. ويصر كل طرف على هزيمة الآخر رغم أن الانتصارات التي حققها الجيش الروسي على جبهة دونيتسك كسرت إلى حد كبير شوكة القوات الأوكرانية رغم الدعم الغربي الكبير.
المؤشرات والوقائع على الأرض تظهر أن هزيمة أمريكا والغرب حتمية في الحرب الأوكرانية، وأن روسيا تمتلك زمام المبادرة سياسيا وعسكريا وقانونيا، وتتصرف بكامل الحكمة أمام الاستفزازات الغربية، رغم قدرتها على توجيه ضربات عسكرية حاسمة على كييف وخاركيف وعلى معظم المدن الأوكرانية ردا على قصف المدنيين الروس في بيلغورود والهجوم الإرهابي على كورسك. ويبدو أن الأسابيع القادمة ستشهد تصعيدا كبيرا لأن الجميع يتحدث عن السلام ويحشد للحرب. فالميدان هو الميزان، ونظام زيلينسكي يراهن على البقاء في كورسك حتى موعد الانتخابات الأمريكية على أبعد تقدير، إلا أن حساب الحقل ليس كحساب البيدر، والروس يرفضون الدخول في أي مفاوضات قبل خروج الأوكرانيين من كورسك، وهم يواصلون الضغط والحصار على القوات الأوكرانية لتحقيق هذا الهدف.
وفيما أعلن سكرتير الأمن القومي الروسي سيرغي شويغو أنه لا مفاوضات مع نظام زيلينسكي قبل تحرير كورسك، جاءت تصريحات الرئيس بايدن التصعيدية متزامنة مع الزيارة التي يقوم بها وزيرا الخارجية الأمريكي والبريطاني أنطوني بلينكن وديفيد لامي إلى أوكرانيا دعما لنظام زيلينسكي لإعطائه زخما وجرعة من الأمل للبقاء في السلطة لحين موعد الانتخابات الأمريكية على أبعد تقدير ومنعه من الانهيار جراء الضربات الروسية.
ورغم أن روسيا لا تزال تستخدم سياسة ضبط النفس، إلا أن رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين اعتبر أن فلاديمير زيلينسكي يجر الغرب إلى الصراع الأوكراني، الأمر الذي لن يترك لروسيا خيارا آخر سوى الرد باستخدام أسلحة أكثر قوة. وفي هذا السياق، حذر البروفيسور النرويجي غلين ديسن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن من اتخاذ قرار ستكون نتائجه “أسوأ من حرب عالمية”. وأكد ديسن أن السماح لأوكرانيا بضرب الأراضي الروسية بأسلحة بعيدة المدى سيكون بمثابة هجوم أمريكي على روسيا. وكتب ديسن عبر حسابه على منصة “إكس”: “بايدن ادعى ذات مرة أن تسليم مقاتلات إف-16 سيشعل الحرب العالمية الثالثة، ولكن هذا أسوأ بكثير، إنه هجوم أمريكي على روسيا”.
التباعد والتباين بين ترامب وهاريس حول أوكرانيا كان جليا وحاسما. فإدارة بايدن والمرشحة هاريس تدفع باتجاه توسيع الحرب لتشمل كامل أوروبا لاستنزاف روسيا لأطول مدة ممكنة. وقد نجحت إدارة بايدن في المحافظة على تكتل كبير يضم معظم الدول الأوروبية رغم التململ الأوروبي، إلا أن واشنطن أجبرت أوروبا على اتباع سياسة متطابقة لسياستها في أوكرانيا، وشنت حملة إعلامية مضللة واسعة لتخويف أوروبا من روسيا. إلا أن المرشح الجمهوري ترامب استطاع أن يقنع العالم بأنه إذا ما وصل إلى كرسي البيت الأبيض، فإنه سيكون قادرا على وقف الحرب خلال أربع وعشرين ساعة، وهذا ما يؤكده المراقبون لأن الحرب في أصلها وفصلها حرب أمريكية أطلسية ضد روسيا وما أوكرانيا إلا أداة طيعة بيد الغرب لا حول لها ولا قوة سوى تنفيذ ما يطلبه الناتو بقيادة الولايات المتحدة، وعليها أن تقاتل حتى آخر جندي أوكراني، وهذا ما تفعله منذ أكثر من عامين ونصف. ولا شك أن ترامب سيكون أكثر جرأة في مهاجمة إدارة بايدن في حال تمكنت القوات الروسية من تحرير كورسك قبيل الانتخابات الأمريكية، وهذا أمر ممكن بالنظر إلى الحصار الذي تفرضه روسيا وبالنظر إلى التحضيرات التي يجريها الجيش الروسي للانقضاض على القوات الأوكرانية.
تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى سينقل المواجهة إلى مرحلة جديدة ستطال أوروبا كلها، وخاصة أن الرئيس بوتين أوضح بشكل جلي أن روسيا ستقوم بتزويد حلفائها بصواريخ وأسلحة متطورة وأنها منفتحة أيضا على السلام. يبدو أن تصعيد الحرب وتخفيض التوتر مرتبط بالانتخابات الأمريكية لدرجة يبدو فيها الخامس من تشرين الثاني تاريخا حاسما باتجاه تصعيد الحرب أو باتجاه إحلال السلام.
يحيى كوسا