لم تهتم هاريس بإعطاء أدنى إشارة للناخبين التقدّميين. بل رفضت حتى التلميح لوجود سبب للتصويت لها غير كونها ليست ترامب فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
في سياق التحوّلات الإقليمية والدولية لـ”طوفان الأقصى” وفي الحديث عن عن انكسار الإجماع الأميركي على الدعم المطلق لـ”إسرائيل”، ودخوله نطاق عدم اليقين، غدت معارضة السياسات الأميركية الداعمة للإبادة، للمرة الأولى، قضية رأي عامّ في عام انتخابي حرج.
ونتيجة لدعم إدارة بايدن ومشاركتها وإصرارها على استمرار الإبادة بغزة ولبنان، خسر الرئيس ونائبته وحزبه ونخبة العولمة الإمبريالية الانتخابات الأخيرة، وعاد ترامب ومعسكر الاستيطان والجنون الأيديولوجي “المشيحاني” للبيت الأبيض.
وبحسب ميتشل بليتنيك، الكاتب اليهودي الأميركي التقدّمي، ومؤلف كتاب “باستثناء فلسطين: حدود السياسة التقدمية”، سيظل سبب فشل كامالا هاريس الكارثي في انتخابات 2024 محلّ جدال مديد، لكن هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن حرب “إسرائيل” والإبادة الجماعية في غزة وراء ذلك.
لا عامل واحداً حاسماً يفسّر فشل هاريس، لكن غزة أصبحت رمزاً لكلّ العوامل. كانت غزة القضية الأوضح التي خلقت الإحباط وخيبة الأمل تجاه الديمقراطيين، وقمعت الإقبال لدعم كامالا هاريس، لكنها لم تكن الوحيدة.
أين ذهبت الأصوات؟
الحقيقة الدامغة هي انخفاض الإقبال على التصويت. نال ترامب أصواتاً أقل بـ700 ألف صوت مما حصل عليها عام 2020، أي 74.2 مليون صوت. لكن مقارنة بجو بايدن عام 2020، نالت هاريس نحو 69 مليون صوت، وهو أقل كثيراً من 81.2 مليون صوت نالها بايدن عام 2020.
دونالد ترامب أول جمهوري يفوز بالتصويت الشعبي منذ عام 2004 وأول رئيس غير شاغل للمنصب يفعل ذلك منذ عام 1988، رغم التهديد الحقيقي لاستبداده، وعشرات الإدانات الجنائية بالفساد، وكوارث رئاسته السابقة.
فهل كان ذلك بسبب غزة؟
سيظل سبب فشل هاريس الكارثي محل جدال أبدي. لكن هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الشرق الأوسط عامة وغزة خاصة أدّت دوراً كبيراً.
ليس انخفاض التصويت هكذا بسبب اللامبالاة، بل خيبة الأمل. افتقاد الإقبال على التصويت لصالح هاريس لا يعني أن الناس لا يدركون تهديد ترامب؛ بل لأنهم لا يرون هاريس إجابة صحيحة وأنهم مستاؤون من إجبارهم على اختيار ليس فقط الشر الأقل، بل مرشحة غير مستساغة مما يجعل التصويت لها غير متصوّر، ولو كان البديل أسوأ.
هناك ما يعكس مدى فظاعة المرشحة هاريس وفظاعة حملتها. وتشمل هذه القضايا الهجرة، والاقتصاد (أخبرت مراراً المكافحين لدفع إيجاراتهم أنهم يعيشون بـ”جنة بايدن الاقتصادية”)، واحتضانها لمجرم الحرب ديك تشيني وابنته ليز.
لكن لم يكن هناك عامل واضح مثل غزة والنهج تجاه “إسرائيل”. ربما لم تكن غزة العامل الحاسم. إذ لم يكن أي عامل حاسما. وغدت غزة رمزاً لجميع العوامل.
منذ البداية، أوضحت هاريس أنها لا تنوي الابتعاد عن سياسات بايدن والإبادة الجماعية بغزة. وبينما استمر فريق تسويقها في ملء وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بما يوحي أنها حاولت وراء الكواليس تعديل هذه السياسات، لكن في العلن استخدمت عناصر خطاب بايدن، واقتبست سطور بايدن أو أنتوني بلينكن المشتركة حرفياً.
في حين أيدت كتلة السياسة الخارجية الثنائية الحزبية بواشنطن دعم “إسرائيل” بالكامل، أراد الناخبون الديمقراطيون وقف إطلاق النار وتوقّف أميركا عن دعم تدمير غزة. كان هذا الانفصال مهماً بقدر الاعتراضات على السياسة نفسها.
صراع الشرق الأوسط يوتر الناخبين. فالديمقراطيون قلقون من انتشار ظاهرة الإبادة، وتورّط البلاد فيها، وسريانها لقوى بحلف الناتو، وروسيا، والصين. ويزيد احتمال المواجهة مع الصين بشأن تايوان تأجيج هذه النار، وإظهار الديمقراطيين كحزب يعشق الحرب. وعندما قاطعها الناس احتجاجا على الدعم المستمر لـ “إسرائيل” والإبادة الجماعية، كان رد هاريس “أنا أتحدّث”! فعلياً، أخبرت هاريس كل مهتم بفلسطين أن يلتزم الصمت بشأن الإبادة الجماعية ويذعن لها.
التقويض الذاتي
أدى دفاع هاريس المستمر عن الإبادة الجماعية إلى تقويض رسائل تحاول الفوز بها. كانت النقطة الرئيسة بحملة هاريس: مدى فظاعة دونالد ترامب. وهي ليست مخطئة، حتى عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط.
وهذه حجة بلا معنى عندما تكون هاريس هي “الشر الأقل” ظاهرياً وشريكاً كاملاً في أكثر عمليات الإبادة الجماعية وحشية وسادية ونطاقاً في هذا القرن. إنه شر أقل فظاعة لدرجة أنه لا يمكن دعمه!
كانت قوة هاريس السياسية: حقوق المرأة والمثليين جنسياً ومزدوجي الميل الجنسي وتغيير الجنس. لكن موقفها البارز بشأن حقوق المرأة، طوال الحملة، قوّضه نهجها تجاه غزة. سأل الناس: كيف يمكنها الدفاع عن حرية الإنجاب، وحق المرأة في جسدها، عندما تدعم هجوماً عسكرياً جعل حصول النساء على رعاية أثناء الحمل وقبل الولادة وبعدها ورعاية المواليد مستحيلاً؟ وكيف تدافع عن حقوق المرأة وهي متحمسة للغاية لقتل المدنيين بغزة بما يجعلها تحرم النساء الحق في الحياة؟
الناخبون والسياسة الخارجية
المعلوم جيداً أن الأميركيين نادراً ما يهتمون بالسياسة الخارجية ولا يصوّتون على أساسها ما لم تُقتل قوات أميركية بالخارج بأعداد كبيرة، كما حدث في العراق وأفغانستان وفيتنام. لم تغيّر غزة وفلسطين ذلك. بينما المتضامنون مع فلسطين وضعوا غزة ولبنان في اعتبارهم بشكل كبير عند تصويتهم، لكن قِلة صوّتت بدافع الإبادة الجماعية في غزة فقط.
لكن بسبب عمق المشاركة الأميركية، وفظاعة المذابح الوحشية التي ترتكبها “إسرائيل” يومياً، والأهم مدى قدرة الناس على رؤية هذا يتكشّف على هواتفهم، أصبحت غزة رمزاً لافتقاد الجوهر بين الديمقراطيين وفشلهم الواضح. استجابة الديمقراطيين للرعب الذي عبّر عنه ناخبوهم تجاه ما تفعله أميركا بغزة أنتجت اشمئزازاً وتنفيراً للناخبين.
شملت الاحتجاجات ضد الإبادة الجماعية مشاركة أوضح وتصريحات دعم من جماعات كبرى، كالاتحاد الوطني لتقدّم الملوّنين (السود) NAACP والنقابات العمالية. أصبح “لوبي إسرائيل” (إيباك)، وجماعات الضغط، وتمويل الحملات الانتخابية رمزاً لكلّ خطيئة بالسياسة الأميركية.
أخطأت حملة هاريس هذه الحقيقة تماماً. فانخفض دعمها بين ناخبين أعمارهم بين 18 و29 عاماً من 60% لبايدن عام 2020 إلى 55% بينما ارتفع دعم ترامب من 36% عام 2020 إلى 42% هذا العام، ويعود ذلك إجمالاً إلى قوة عدد ناخبي هذه الفئة العمرية الذين لم يصوّتوا.
أدّى كل شيء عن موقف هاريس تجاه فلسطين إلى شعور أوسع باليأس. كان بإمكان المتضامنين مع فلسطين التصويت لهاريس، لكن رسالتها لهم: لا شيء سيتحسّن حتى لو صوّتوا لها. فلم يفعلوا.
إحباط وخيبة أمل
كانت غزة أوضح قضية خلقت إحباطاً وخيبة أمل تجاه الديمقراطيين الذين قمعوا الإقبال لدعم هاريس. كان موقف الديمقراطيين القاسي بشأن الهجرة عاملاً آخر. وظلوا يتهمون المكافحين لتدبير حياتهم بالغباء وعدم فهم ازدهار الاقتصاد، وأنكروا أنه لا يزال سيئاً لأكثر الأميركيين.
أصبحت غزة رمزاً لكل الإخفاقات. وكان عدم رغبة هاريس في الإنصات لناخبيها أكثر وضوحاً على أي حال. يعلم 77% من الديمقراطيين الراغبين بوقف إطلاق النار أن الولايات المتحدة يمكنها تحصيله من “إسرائيل” تحت طائلة وقف تدفّق الأسلحة. وتلاعبت هاريس بشأن هذه القضية، بزعم أنها “تعمل لأجل وقف إطلاق النار” بينما يتضح تماماً عدم رغبتها باتخاذ إجراء جوهري تجاهه، مما أظهر سطحيتها بقضايا أخرى.
بل وسلّط الضوء على ندرة الأخلاق والتعاطف مع معاناة هائلة. ويُفترض أن يكون هذا ما يميز هاريس عن ترامب. لكنها أظهرت سخريتها وقسوتها مثل ترامب، من دون التحدّث بصراحة عن الأمر. لم تكن هاريس راغبة حتى أن تتظاهر بالاهتمام بشعب غزة أو بأصوات الفلسطينيين والمسلمين والعرب الأميركيين.
حصلت هاريس على فرصة من وزيري الدفاع والخارجية بإدارة بايدن عندما أصدرا خطاباً يحذر “إسرائيل” من عدم الامتثال للقانون الأميركي. كان الجميع يعلم أنها خدعة، وبدلاً من تجاهلها، ضاعفت “إسرائيل” حظر المساعدات الغذائية والإنسانية لغزة.