نتنياهو يوافق على وقف إطلاق النار مع لبنان بسبب التداعيات الخطيرة لمواصلة الحرب على مستقبل ومصير كيانه.. وسردية الانتصار التي روج لها نتنياهو تتحول إلى استسلام
لم يكن أكثر المتفائلين يعتقد أن إسرائيل ستوافق تحت أي ظرف في هذا التوقيت على وقف إطلاق النار في لبنان قبل استلام الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة، ولكن الوضع الداخلي في إسرائيل جعل نتنياهو يرضخ بعد أن حول حزب الله اللبناني جميع المستوطنات والمناطق والمواقع في إسرائيل إلى أهداف لمسيراته وصواريخه، وبعد أن استطاع مقاتلوه الصمود أمام خمس فرق إسرائيلية على تخوم الجنوب لأكثر من شهرين ومنعوا المحتل من أن يدنس أرض الجنوب إلا تدميرا وترهيبا وقتلا في القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة.
رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتبر أن أسباب قبوله وقف إطلاق النار في لبنان كانت التفرغ لإيران والتركيز على التهديد الإيراني، والاستفراد بجبهة غزة وفصلها عن الجبهة اللبنانية.
ومع أن الاتفاق لاقى ردود فعل عربية وإقليمية ودولية واسعة، إلا أن الأسباب وراء قبول حكومة الاحتلال الهدنة، وكما أعلنها نتنياهو، واهية وغير مقنعة وغامضة أمام الوقائع الميدانية التي استطاعت المقاومة اللبنانية فرضها من خلال تكبيد قوات الاحتلال خسائر فادحة كثمن لأي تقدم بري على طول خط الحدود بين لبنان وكيان الاحتلال. وكانت وسائل الإعلام الدولية تنشر صور المعارك الضارية التي أثبتت المقاومة خلالها جدارتها وقدراتها على الصمود في القرى الأمامية، بالإضافة إلى عمليات إطلاق الصواريخ والمسيرات الدقيقة التي كانت تلاحقها طائرات الاحتلال وتفشل في اعتراضها، والتي وصل الكثير منها إلى أهدافه العسكرية في حيفا وتل أبيب وعكا وصفد ومستوطنات الشمال. وكان الهجوم الصاروخي الكبير قبل أربع وعشرين ساعة من وقف إطلاق النار، الذي بدأ فجر الأربعاء في السابع والعشرين من تشرين الثاني، عندما أرغمت الصليات الصاروخية أكثر من مليوني إسرائيلي على النزول إلى الملاجئ، ما أثار حالة من الرعب والخوف ووضع الإسرائيليين في وسط المعركة، حتى أن وسائل الإعلام الإسرائيلية ذكرت أن أكثر من 85% من الإسرائيليين يتعاطون المهدئات، هذا فضلا عن الضغوط التي تعرض لها نتنياهو جراء فشله في إعادة الأسرى المتبقين في غزة، وعددهم 101، ولا يعرف أحد إذا كانوا أحياء أو أمواتا.
الفارق الكبير بين الأسباب التي ساقها نتنياهو لقبوله وقف إطلاق النار والأسباب الحقيقية التي دفعته للرضوخ بعد أربعة عشر شهرا من الحرب والعدوان وعمليات القتل الجماعية يمكن أن تتبدى وتتكشف أكثر عبر إرادة التحدي لدى النازحين اللبنانيين، الذين عاد مئات آلاف منهم فور الإعلان عن وقف إطلاق النار، رغم كل البيانات والتحذيرات الإسرائيلية التي تعامل معها سكان الجنوب اللبناني والبقاع وبعلبك باستخفاف وبعدم اكتراث. فالهدنة التي مدتها ستين يوما كافية لتطبيق قرار مجلس الأمن 1701، والذي أكد رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن لبنان سيطبقه دون زيادة أو نقصان، وأن الجيش اللبناني سيعيد انتشاره في الجنوب بالتعاون مع قوات اليونيفيل الأممية، التي سيناط بها مهام جديدة بالنظر إلى التغيرات والتطورات الكبيرة على ساحة الجنوب وصولا إلى نهر الليطاني.
ومع أن احتمالات عودة القتال بين حزب الله وإسرائيل ضئيلة بعد استلام ترامب السلطة، لأنه رجل صفقات وليس رجل حروب، إلا أن بقاء نتنياهو ووزرائه المتطرفين، كوزيري الأمن والمالية إيتمار بن غافير وبتسلئيل سموتريتش، الذين صوتا على وقف إطلاق النار ولكنهما أعلنا أنهما سينسحبان من الحكومة في حال لم يستأنف نتنياهو الحرب على لبنان بعد انتهاء الهدنة، وأكدا أن الحرب في غزة عادت أقوى مما كانت عليه قبل الهدنة التي تم التوصل إليها بين حماس وإسرائيل في بداية الحرب، ثم عادت إسرائيل ودمرت غزة ودخلت رفح جنوبي القطاع على الحدود مع مصر وقتلت زعيم حماس يحيى السنوار.
إذن، طريقة التعاطي الإسرائيلي مع اتفاق وقف إطلاق النار تختلف عن طريقة تعاطي لبنان بالمطلق. فلبنان يتصرف كما لو أن الحرب انتهت، وحزب الله يرفع رايات النصر رغم كل الضربات التي تلقاها، بدءا بتفجيرات البيجر واللاسلكي وصولا إلى اغتيال قادته، وفي مقدمتهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي سيقيم له الحزب مراسم تشييع بعد اتفاق وقف إطلاق النار. أما إسرائيل، التي قامت على الحروب والقتل والإرهاب والمجازر، فإنها تتعاطى مع وقف إطلاق النار بمنطق عدواني وتفكر بطريقة مختلفة. فهي تفكر باستئناف الحكم أمام محكمة الجنايات الدولية ضد مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت، وتفكر بترميم جيشها المنقسم على نفسه بعد إجبار الحريديم على الخدمة العسكرية، وتفكر بمواصلة الحرب على غزة والضفة ومواصلة الاستيطان تحت عنوان إقامة شرق أوسط جديد، وربما تسعى أيضا لتشكيل حكومة حرب جديدة لحل الخلافات الداخلية المستعصية بين نتنياهو وخصومه، وتفكر أيضا بمواصلة الاعتداءات على سورية بحجة منع إدخال الأسلحة إلى حزب الله.
لقد أثبتت قوة المقاومة اللبنانية في الميدان كلمتها على الوسيط والمفاوض الأمريكي، وفرضت إرادتها بأن لا قبول بأي وقف لإطلاق النار ينتقص من سيادة لبنان أو يفرض على مقاومته الباسلة أي خطوط حمراء في الدفاع عن لبنان وشعبه وسيادته.
ولا شك أن ما حققته المقاومة اللبنانية خلال الحرب كان أكبر من قدرة كيان الاحتلال ومستوطنيه على تحمله.