هواجس الأمان الاقتصادي والأمان الشخصي تسيطر على الشارع السوري بعد أربعين يوما من التحرير وسقوط نظام الأسد البائد.
رغم زخم اللقاءات العربية والدولية والحراك المجتمعي والصخب الإعلامي في سوريا وحولها، ورغم استمرار الجهود من الإدارة السياسية الجديدة لإعادة بناء جهاز الدولة البيروقراطي والعسكري والدبلوماسي وتشكيل نظام دستوري بما ينسجم مع ثنائية الدولة والثورة من موقع أن الثورة انتهت بسقوط النظام وبدأت مرحلة بناء الدولة، إلا أن الهواجس الأمنية لا تزال تحكم تصرفات وأحاديث الشارع السوري. في وقت تعمل الإدارة السياسية الجديدة على معالجة هذا الملف الحيوي من خلال العمل على طمأنة الرأي العام والقيام بعمليات أمنية واسعة لملاحقة المجرمين ووقف التجاوزات والمخالفات. مع الإشارة إلى أن هيئة تحرير الشام التي أسقطت النظام تضم فصائل عديدة وتعمل بكل قوتها لضبط الأمن وكسب ثقة الشارع السوري وتوجه خطابا وطنيا جامعا، غير أن وجود فصائل أخرى وعناصر مجرمة منفلتة خرجت من السجون خلال التحرير يعكر الأجواء ويخلق حالة من عدم اليقين والشكوك. إلا أن العمل جار لحشد الإمكانات وتدريب الكوادر الجديدة المنضبطة لتحقيق الأمن والأمان في البلاد بعد أربعين يوما من سقوط النظام.
وفي هذا المجال، قامت هيئة تحرير الشام بخطوات عديدة للسيطرة على الوضع الأمني وأقامت الحواجز في عدد من المدن لحماية المدنيين من المجرمين كما حصل في مدينة حمص. وتمكنت قوات الأمن العام من تحقيق إنجازات وألقت القبض على الكثير من العناصر المنفلتة والإجرامية الذين ينتحلون صفة رسمية ويعتدون على المواطنين وممتلكاتهم. حيث تدعو الإدارة السياسية المواطنين لاتخاذ كل أسباب الحرص والحذر لاتقاء شرور هذه العناصر التي تعيث فسادا وانتقاما تحت جنح الظلام للنيل من العهد الجديد بقيادة أحمد الشرع، الذي يستبشر الناس الخير فيه بعد أربعة عشر عاما من الحرب.
وبموازاة تحقيق الأمن للسوريين، يبدو أن قضية الأمان الاقتصادي أيضا تشغل حيزا واسعا من تفكير وهواجس السوريين، وبخاصة العاملين في القطاع العام الذين يواجهون مشكلات في وظائفهم وقبض رواتبهم التي تأخرت. فيما صدرت قوائم بآلاف الأشخاص الذين يتخوفون من فصلهم من عملهم بشكل تعسفي، رغم أن الإدارة الجديدة أعلنت مرارا وتكرارا أنها لن تقدم على استبعاد أي موظف. مع العلم أن العاملين في القطاع العام قضوا فترات طويلة وهم يدفعون الغرامات المترتبة عليهم من أجل حقوقهم التقاعدية. إلا أن حالة من القلق لا تزال تصبغ الأجواء رغم الانفراجات الاقتصادية وتوفر السلع الغذائية وانخفاض الأسعار. إلا أن نقص السيولة النقدية بأيدي المواطنين وتعرض الصناعات الوطنية للخطر جراء التنافس مع البضائع الأجنبية والتركية على وجه الخصوص يشكل عامل ضغط إضافي على الصناعة الوطنية والتجار وعلى الإدارة الجديدة التي تعمل أيضا لمعالجة هذه المشكلات والمخاطر عبر تخفيف الضرائب والجمارك لتصبح تكلفة السلع مناسبة لعامة المواطنين.
أما المشكلة الأكبر التي تواجه السوريين وتقض مضاجعهم فهي مشكلة رواتب عناصر الجيش العربي السوري وعناصر حزب البعث. وهؤلاء يبلغ تعدادهم مئات الآلاف بعد حل الجيش والحزب بعد التحرير في الثامن من كانون الأول الماضي. وتسود حالة من القلق والذعر وبخاصة في مناطق الساحل السوري مع اتساع حالات الخطف والاعتداءات المتنقلة على المواطنين وسرقة ممتلكاتهم. وينتظر الشارع السوري إجابات وتفسيرات حول الخطط والبرامج الجديدة لتحقيق حالة الاستقرار والأمان الشخصي والمجتمعي والاقتصادي قبل الخطوات السياسية المنتظرة، وفي مقدمها عقد مؤتمر وطني لمختلف مكونات الشعب السوري واستكمال خطوات تشكيل جيش وطني يحمي البلاد ويحفظ وحدتها، يكفل حقوق الناس ويحل مشاكلهم بما يؤمن لهم الحد المعقول من الحياة الإنسانية الطبيعية.
وبالإضافة إلى هواجس الأمن والأمان الاقتصادي، فإن سوريا تواجه الحركات الانفصالية والأفكار التكفيرية، ويتوجس السوريون خيفة من المستقبل رغم كل التطمينات العربية والدولية وخطوات الإدارة الجديدة الوطنية، جراء استمرار المعارك في شمال شرق سوريا بين الفصائل الموالية لتركيا وقوات سوريا الديمقراطية. إضافة إلى تفشي ظاهرة الإرهاب بسبب تهديدات ميليشيا قسد بإطلاق آلاف الإرهابيين من تنظيم داعش، في وقت تتعثر المفاوضات الجارية بين ميليشيا قسد والإدارة السياسية بسبب إصرار الميليشيات على عدم الانضواء تحت لواء الجيش الوطني الموحد، وهو ما يرفضه السوريون والإدارة الجديدة بشكل قاطع. مع العلم أن اللهجة الانفصالية لدى هذه الميليشيات انخفضت مؤخرا بسبب الضغط العسكري ورفض السوريين جميعا لتقسيم البلاد.
سوريا اليوم بعد أربعين يوما من التحرير تقطع خطوات على صعيد الانفتاح العربي والدولي، ولكنها لا تزال تسير ببطء شديد على صعيد الاستحقاقات الداخلية بسبب تعقيد المشهد السوري وتشابكاته وتعدد المشكلات الأمنية والاقتصادية والسياسية، والتي تحتاج إلى المزيد من الوقت والمزيد من الوحدة الوطنية والتكاتف المجتمعي لإنجازها.