خطوة بخطوة ، مراقبة وتقييم، وتسجيل لكافة الأخطاء والزلات قبل الإيجابيات، هكذا يتعامل الغرب مع سوريا الجديدة
النظرة السوداوية والنظرة المتفائلة بمبالغة، كلاهما بعيدتان عن الموضوعية، فالمسألة ليست أمنيات ودعاء ” الله يقدم اللي فيه الخير”، خاصة أن المشهد السوري اليوم بات محاطاً بمتربصين كثر، وبمخاطر أمنية أشد والتي من الممكن أن تعرقل مسار أيّ انفراج قادم.
صحيح أن الرئيس السابق بشار الأسد غادر في ظروف غامضة بعد تمنع وعجرفة دامت لقرابة 14 عاماً، لكن من استحوذ على البلاد اليوم من الممكن أن يفاقم الوضع سوءاً إن لم يكن على قدر من الاعتدال والتوازن الذي يرجوه الغرب وجيران سوريا.
عادة ما يرتبط الانفتاح المفاجئ وازدحام الوفود الدبلوماسية على أبواب دولة معزولة لسنوات عن معظم دول العالم، بمخطط غامض ومستقبل مبهم … نعم مبهم !!! وهذا الكلام نابع عن تجربة سابقة، من الماضي القريب!!
قبل سقوط بشار الأسد بأسبوع كان هنالك تضامناً مفاجئاً من جميع الأطراف العربية والدولية مع الأسد للقضاء على “المجاميع الإرهابية” التي بدأت بالسيطرة على مدينة حلب، وعدوا الأسد باجتماع لجامعة الدول العربية لمناقشة الهجمات الإرهابية، يومياً كان يصدر عشرات البيانات المستنكرة للهجوم … لأول مرة منذ أربعة عشر عاماً يكون هنالك إجماع بالكامل على ضرورة دعم الأسد وإنقاذه وفي تلك اللحظة لم يطلقوا على تلك المجاميع اسم “قوات ثورية” أو “قوات المعارضة” … وقبلها بشهور استأنف الأسد زياراته لدول الخليج وعاد إلى جامعة الدول العربية لكن في الحقيقة كان هناك مخططاً لإسقاط نظامه أو بالأحرى طمأنته ومن ثم خداعه وإحراق ورقته… وفي النهاية نجحوا بالإجماع بإسقاط نظام سُجّل كأعتى وأقسى الأنظمة الدكتاتورية في العصر الحديث، فكيف سيكون وضع الإدارة الجديدة الآن مع هذا الانفتاح والتحولات السريعة والمدوية والمفاجئة؟؟
بعد أن وصل “أحمد الشرع” إلى سدة السلطة لبناء سوريا الجديدة، تسجل دمشق يومياً زيارات متبادلة لدول عربية وأوروبية، منظمات دولية وجاليات، ومغازلات ووعود بانفتاح اقتصادي وإسقاط قانون قيصر بالكامل … هذه هي أهداف الزيارات “المعلنة”.. بالإضافة إلى ملفات يتم مناقشتها بتكتم شديد، ففي الغرف المغلقة وبعيداً عدسات الكاميرا، تمارس تلك الدول ضغوطاً كبيرة على الإدارة السورية الجديدة، لا تثق بها من جهة وتحاول تطويعها خدمة لسياساتها من جهة أخرى، كما تتوخى خلال التواصل مع قادتها الجدد أقصى درجات الحذر بما أنها على علم بماضي فصائلهم الجهادي، الدول الأوروبية والعربية يحاولون الإمساك بالعصا من المنتصف، يراقبون الوضع عن كثب لكنهم بدؤوا الاصطدام بحائط الواقع مع غياب الوجود الأمني والقضاء والفراغ الدستوري، فتطمينات الإدارة الجديدة لا تتعدى حدود الوعود النظرية، وفي كثير من الأحيان لا تتفق مع ما يحدث على أرض الواقع، خاصة فيما يتعلق بهشاشة ضبط أحمد الشرع للفصائل المتشددة المنضوية تحت إدارة العمليات العسكرية والتي تقوم بانتهاكات وجرائم شنيعة في ريف حمص وحماه والساحل السوري، وإن أردنا أن نقرأ المؤشرات الجدية والثقة الدولية بأحمد الشرع لا بد أن نتابع صحافتهم وإعلامهم وبلغتهم الأم، لا ما يصدرونه إلى شعوبنا، فهم يؤكدون في صحافتهم مع كل زيارة وكل لقاء عدم اعترافهم بالقيادة الجديدة، وإنما اعترافهم بمراقبة تحركاتها وتصرفاتها ورسائلها المبطنة والاعتباطية بما أنها ما زالت مندرجة على قوائم الإرهاب، فواشنطن مثلاً تضع 3 ملفات رئيسية على طاولة المفاوضات، وهي الحكم غير الطائفي الذي يحترم الأقليات، ومسألة الأسلحة الكيميائية، وضمان عدم تحول سوريا إلى قاعدة للإرهاب، وموقف فرنسا وألمانيا يحاكي ذات القضايا، حيث قالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ونظيرها الفرنسي جان نويل بارو بعد اجتماعهما مع “الشرع” إن أوروبا ستدعم سوريا الجديدة لكن لن تقدم أموالاً للهياكل الإسلامية الجديدة، وأن رفع العقوبات الكامل، سيعتمد “فقط” على تقدم العملية السياسية، وإشراك كل الطوائف في عملية إعادة الإعمار، وتقديم ضمانات أمنية موثوقة للأكراد.
اللقاءات الدبلوماسية الكثيفة، مثيرة لإعجاب من لا يذهب بعيداً إلى أعماق المشهد، الأمر لا يمكن أن يستدعي التفاؤل إذا ما اتخذنا من تصريحات إدارة العمليات سياقاً مستقبلياً… فالواقع يفرض تحديات ليست سهلة على “الحكام الحديثون”…!