تحليل يتضمن الحديث حول نتائج زيارة فيدان إلى بغداد ولقاءاته مع المسؤولين العراقيين ودور العراق في موضوع الحل المطروح بين الإدارة السياسية السورية الجديدة وميليشيا قسد، وأسباب رفض بغداد الانخراط في المخطط التركي الجديد للمنطقة تحت عنوان القضاء على حزب العمال الكردستاني.
رغم أهمية الملف الاقتصادي وموضوع تقاسم مياه الفرات ودجلة بين العراق وتركيا، إلا أن زيارة وزير الخارجية التركي هاغان فيدان الرابعة له خلال عام إلى العراق تمحورت حول الوضعين السياسي والأمني بعد التطورات في سورية. تصدر الملف الأمني المحادثات بين فيدان ونظيره العراقي فؤاد حسين، وحضر الملف السوري بقوة في هذه المحادثات بالنظر إلى المخاوف التركية من انتقال الأسلحة والعناصر التابعة لحزب العمال الكردستاني من العراق إلى سورية لدعم ميليشيا قسد التي رفضت تسليم أسلحتها للإدارة السورية الجديدة، فيما تستعد تركيا والفصائل المسلحة لحسم المعركة عسكريا، وهو الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة وإدارة ترامب وحتى الاتحاد الأوروبي، حيث لا يزال يدعم فكرة الحكم الذاتي التي تطالب بها ميليشيا قسد. فيما تحاول تركيا الضغط على العراق ليكون جزءا من المعركة، إلا أن العراق لا يزال مترددا وليس لديه الرغبة في إقحام نفسه في مسألة قسد والوضع في سورية.
الوزير فيدان دعا بوضوح العراق لمنع انتقال مقاتلين من حزب ال “بي كي كي” الذي تعتبره تركيا إرهابيا إلى سورية ومنع إدخال الأسلحة إليها. كما دعا الحكومة العراقية للتنسيق مع الإدارة السورية الجديدة. ولا تزال السجون التي تسيطر عليها ميليشيا قسد وتضم آلاف السجناء من تنظيم داعش تشكل عقدة كبيرة، لأن الدول التي ينتمي إليها هؤلاء لا تريد عودتهم، كما أن قسد لا تقوم بتسليم هؤلاء إلى الإدارة السورية الجديدة ولا حتى إلى تركيا. وتعتمد قسد بالدرجة الأولى على دعم الولايات المتحدة والتحالف الدولي، وتسعى لتعميم تجربة أربيل في شرق الفرات، وهو ما ترفضه تركيا والإدارة السورية والشعب السوري.
لا شك أن دخول مسعود البرزاني على خط الوساطة وزيارة مظلوم عبدي منتقلا من سورية إلى أربيل بمروحية أمريكية، في محاولة لتوحيد الأطراف المتصارعة داخل الميليشيات الكردية نفسها، لتوحيد صفوفها، يدل على مدى الدعم الذي توليه إدارة ترامب للأكراد في العراق وسورية معا. وربما كان عبدي يريد تعميم تجربة الفدرالية في العراق، الأمر الذي ترفضه تركيا كما ترفضه الإدارة السورية والشعب السوري الذي يعتبر التقسيم أو مشروع الإدارة الذاتية خطا أحمر لا يمكن السماح بتمريره.
ومع غياب أي أفق للحل السياسي والتفاهم مع الأكراد، وفي خضم هذه الاتصالات المكثفة التي تسبق المعركة العسكرية المرتقبة، يظهر الموقف الأمريكي الحاسم، حيث لا تزال واشنطن ترفض التفريط بحليفها الكردي وتدعم ميليشيا قسد بقوة. وتشعر تركيا بالخذلان والخوف من الدخول في مواجهة مع واشنطن، مع أن ترامب اعتبر في تصريحات له أن تركيا هي صاحبة النفوذ الأكبر في سورية. هذا الموقف الذي عبر عنه ترامب بإعطاء تركيا الضوء الأخضر يتناقض مع الواقع على الأرض، حيث قامت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بقصف الفصائل الموالية لتركيا لدى محاولاتها التقدم عند سد تشرين في ريف الرقة. هذا الموقف الأمريكي شجع قسد وأدى إلى تصليب مواقفها أمام مطالب الإدارة السورية، حيث رفضت قسد تسليم أسلحتها أو الانضمام إلى الجيش السوري إلا وفق كتلة واحدة، وهو ما رفضته وزارة الدفاع السورية التي تسعى لإنشاء جيش سوري موحد يحمي البلاد ويمنع أي تقسيم لها.
يبدو أن الوقت يمضي لصالح ميليشيا قسد، وكلما تأخر الحسم العسكري كلما استغلت واشنطن التحولات في الشرق الأوسط، فإدارة ترامب لديها ملفات هامة ولها أولوية على الملف السوري، كالوضع في أوكرانيا وغزة، حيث فتح الرئيس الأمريكي من جديد موضوع تهجير الفلسطينيين من غزة إلى الأردن ومصر.
المواقف العراقية والتركية، وإن بدت متقاربة، إلا أن بغداد وأنقرة في واقع الحال في خندقين متقابلين في النظر إلى الملف الكردي الشائك. فالعراق لا يمكنه أن يرفض في سورية ما قبله في العراق، وهي الفيدرالية. كما لا يمكنه المشاركة في معركة ليست معركته. ولهذا ركز وزير الخارجية العراقي في مؤتمره الصحفي مع نظيره التركي على موضوع الإرهاب والتعاون المشترك للقضاء على تنظيم داعش. فيما وصف هاغان فيدان علاقات تركيا مع العراق بالاستراتيجية والتاريخية، وأكد أن حجم التبادل التجاري وصل إلى 20 مليار دولار. وأعطى الوزيران الوضع في سورية اهتماما خاصا، وأكد الوزير التركي أن بلاده تولي اهتماما كبيرا بالتواصل بين العراق والإدارة السورية، مبينا ضرورة التنسيق والتعاون في محاربة تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني الإرهابيين. وعرض فيدان وساطة بلاده لتعزيز العلاقات بين العراق والإدارة السورية، وقال إن تركيا مستعدة للقيام بما يتوجب عليها في هذا المجال.
ورغم الزيارات المتبادلة بين الجانبين واللغة التصالحية بين أنقرة وبغداد، إلا أن الخلافات كبيرة، خاصة لجهة معارضة العراق لطريقة تعاطي تركيا مع الملف السوري وعدم رغبة العراق بأن يكون جزءا من المعركة التي تحضر لها تركيا والفصائل السورية للقضاء على ميليشيا قسد. ويشعر العراق بالقلق من الخطط التركية ولا يريد تحمل أي مسؤولية في هذا الإطار، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية تدعم ميليشيا قسد وترفض الحل العسكري معها. وتجري مفاوضات مع تركيا ومع الإدارة السورية من أجل إيجاد حل سلمي لموضوع الإدارة الذاتية التي يطالب بها الأكراد في شمال شرق سورية وتلقى معارضة الشعب السوري كله.
العراق لا يزال يرفض وصف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، وأعلن أنه حزب محظور في العراق فقط. وهو لا يريد الانخراط بأي صراع مع الأكراد. وكان من أهم المطالب التركية التي أعلنها هاغان فيدان أن تقوم الحكومة العراقية ليس فقط بحظر التنظيم وإنما باعتباره منظمة إرهابية. وقد شدد الوزير التركي على الربط بين تنظيم داعش وحزب “بي كي كي”، ودعا بغداد للتعاون لمحاربة تنظيم داعش.
زيارة فيدان للعراق ولقاءاته مع المسؤولين العراقيين ربما نجحت في تحقيق قدر أكبر من التعاون والتفاهمات بين تركيا والعراق حول كيفية التعامل مع الوضع في سورية. إلا أن اتصال الأكراد في العراق مع الأكراد في سورية جغرافيا وبشريا ووجودهم ضمن جغرافيا واسعة ومفتوحة يزيد من مخاوف تركيا التي تتحضر لعمليات عسكرية واسعة للقضاء على حزب الاتحاد الديمقراطي باعتباره جزءا من حزب العمال الكردستاني.
من المتوقع أن تستمر اللقاءات التركية العراقية ليس لمتابعة الملفين الأمني والسياسي وكيفية التعاطي مع الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع فقط، وإنما أيضا لبحث الملفات الاقتصادية والتجارية وموضوع المياه والوضع الإقليمي، وبشكل خاص لدعم العمليات التركية للقضاء على منظمة حزب العمال الكردستاني، وهو ما ترفضه بغداد حتى الآن.