موسكو تحبط محاولات الغرب لإخراج قواتها من سورية بعد سقوط نظام الأسد وتؤكد على العلاقات الاستراتيجية مع الإدارة السورية الجديدة.
لم تتوقف الضغوط الغربية، وبخاصة الألمانية والفرنسية، على الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع منذ سقوط نظام بشار الأسد من أجل دفعها لإلغاء العقود والاتفاقيات الموقعة مع روسيا لإخراج القوات الروسية من قاعدتي حميميم الجوية في اللاذقية ومن قاعدة طرطوس البحرية على البحر المتوسط.. كما لم تتوقف التصريحات والحملات الإعلامية الغربية ضد هذا الوجود الروسي، حيث تقوم وسائل الإعلام الغربية بحملة دعائية واسعة ضد روسيا والترويج ضدها كطرف خاسر ومهزوم في سورية، مع أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتبر أن روسيا لم تخسر في سورية بعد سقوط نظام الأسد، فيما يتصرف الغرب من منظور المنتصر ويسعى لابتزاز الإدارة السورية من خلال الربط بين مسألة رفع العقوبات المفروضة على سورية والوجود العسكري الروسي في سورية.. ومع كل هذا الضخ الإعلامي والتدخل الغربي ضد الوجود الروسي في سورية، إلا أن تصريحات الشرع كانت واضحة لجهة اعتباره روسيا دولة عظمى وعلاقاتها مع سورية استراتيجية وتاريخية، وقضية خروجها من سورية لابد أن يكون لائقاً. وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الموضوع ليس من المواضيع المستعجلة على جدول أعمال الإدارة السورية.
ولا ننسى أن الوجود العسكري الروسي في سورية، وبالأخص في منطقة الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط وبقاعدتين جوية وبحرية، يعطي روسيا امتيازات كبيرة ودوراً فاعلاً ليس في سورية وإنما في منطقة الشرق الأوسط وليبيا وشمال أفريقيا.. وهذا الوجود العسكري كان حاضرا خلال المباحثات الهامة بين قائد الإدارة السياسية السيد أحمد الشرع وبين موفد الرئيس بوتين نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، والذي وصف المباحثات مع الشرع بأنها بناءة وإيجابية، وأعرب الوفد عن دعم روسيا لسيادة سورية على أراضيها.. ورغم عدم صدور بيان مشترك، إلا أن اللغة التي استخدمتها الإدارة السياسية في توصيفها للمباحثات بين الشرع وبوغدانوف تركت الباب موارباً بشأن تحسين العلاقات وإبقاء القواعد، باعتبار ذلك يحتاج إلى المزيد من المناقشات والحوارات، فيما يرى محللون أن مسألة إبقاء القواعد الروسية في سورية تحتاج إلى توافقات بين روسيا وكل من الولايات المتحدة وتركيا اللتين تدعمان الإدارة السورية.
ويبدو أن أجواء اللقاء بين السيد الشرع وبوغدانوف، والذي استمر ثلاث ساعات وتخلله غداء عمل، كانت إيجابية، فقد ذكرت الإدارة السورية في بيان أن المناقشات ركزت على احترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها، وأن الجانب الروسي أكد دعمه للتغييرات الإيجابية الجارية حالياً في البلاد.
وأشار البيان إلى أن الجانبين ناقشا آليات العدالة الانتقالية التي تهدف إلى ضمان المساءلة وتحقيق العدالة لضحايا الحرب الوحشية التي شنها نظام الأسد المجرم.
كما أكدت الإدارة السورية الجديدة التزامها بالتعامل مع جميع أصحاب المصلحة بطريقة مبدئية، مشددةً على أن استعادة العلاقات يجب أن تعالج أخطاء الماضي وتحترم إرادة الشعب السوري وتخدم مصالحه.
الجانب الروسي ذكر أن الحوار كان إيجابياً وأكد الطابع الودي لعلاقات الصداقة بين روسيا وسورية والتعامل المبدئي الثابت في العلاقات بين البلدين والتي تتميز بطابع استراتيجي وتهدف للحفاظ على وحدة سورية واستقلالها.
وبانتظار أن تتضح الأدوار الفعلية للأطراف المنخرطة في الصراع في سورية، فإن من الواضح أن تركيا تتمتع بنفوذ كبير وتمتلك الأوراق الضرورية لفرض أجنداتها على الساحة السورية، بعكس أوروبا التي تحاول إملاء شروطها على الجميع دون أن يكون لها قوة تأثير على أرض الواقع كما هو حال تركيا والولايات المتحدة، مع الإشارة إلى العلاقات المتميزة والاتصالات المكثفة بين موسكو وأنقرة بشأن الوضع في سورية.. كما أن إدارة ترامب أيضاً تسعى للتعاون مع موسكو بعد سنوات من القطيعة التامة بين روسيا وإدارة بايدن بسبب الحرب في أوكرانيا.. وهذه العلاقات بين موسكو وكل من أنقرة وواشنطن كانت حاسمة في طريقة تعاطي الإدارة السياسية في سورية مع ملف الوجود العسكري الروسي في سورية وضمان أمن المواطنين الروس….
وفي قادم الأيام فإن مسألة الوجود العسكري الروسي ربما تتأثر بشكل كبير بتطور العلاقات بين موسكو وأنقرة والتي تعيش اليوم أحسن حالاتها، وربما زيارات المسؤولين الأتراك إلى دمشق ولقاءاتهم مع الإدارة السياسية لعبت دوراً في لجم محاولات الاتحاد الأوروبي وضغوطه لإخراج القوات الروسية من سورية لتصدير صورة انتصار على روسيا.
ومع أن مسألة القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس تشكل هاجساً وقلقاً للغرب الذي يشن حرباً بالوكالة ضد روسيا على كل الجبهات لتحجيم دورها على الساحة الدولية، إلا أن تجاوب الإدارة الجديدة مع المطالب الأوروبية كان محدوداً، وكما أن روسيا بحاجة لعلاقات جيدة مع الإدارة السورية، كذلك فإن هذه الإدارة تحتاج إلى الدور الروسي في مجلس الأمن وفي المساعدة لترتيب البيت الداخلي السوري بالنظر إلى اطلاع روسيا بشكل كبير على الواقع السوري.. وربما تعول موسكو على دور حقيقي لها في سورية بعد اللقاء المرتقب بين الرئيسين بوتين وترامب، فيما يبقى تأثير الاتحاد الأوروبي على الساحة السورية ضئلاً قياساً بالأدوار الجديدة لتركيا والولايات المتحدة.
ويبدو أن الاتحاد الأوروبي، رغم حماسته للتحولات في سورية وبهجته بسقوط نظام الأسد، يستمر في تكثيف اتصالاته مع الإدارة السورية من أجل تقويض أي وجود روسي في سورية، إلا أن العلاقات السورية الروسية التاريخية والاستراتيجية كما وصفها الشرع تسلك اليوم مسارات جديدة تراعي مصالح الطرفين، فيما تستند روسيا لإرث طويل وتحاول مقاربة الموضوع بكل هدوء واتزان دون مناكفات سياسية مع الغرب الذي يريد إزاحتها عن الساحة السورية، وذلك عبر تصحيح أخطاء الماضي والعمل من أجل المحافظة على سيادة سورية ووحدة أراضيها والمساهمة في تنفيذ القرار 2254 الذي تعمل روسيا على تنفيذه ويتحتم على الجميع العمل به للخروج بسورية إلى بر الأمان والاستقرار…