يدور حديث واسع اليوم حول الأيدي الروسية في سوريا وإمكانية تمكينها ما بعد الأسد، ويقولون أن روسيا جاهزة لدفع ثمن بقاء
قواعدها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، من خلال دفع تعويض للحكام الجدد ،والمساهمة في عملية إعادة الإعمار، وبالطبع يتم اللعب على الألفاظ ويوصفون العلاقة
بين سوريا اليوم وروسيا بأنها علاقة ندية ، وأن موسكو تقدم تنازلات لدمشق مقابل بقائها ، لكن علينا التفكير بموضوعية ومنطقية بدل من العبث واللعب على وتر تغيير
الكلمات لصالح أحد الطرفين أو ضده.
في الحقيقة، وعندما زار ميخائيل بوغدانوف دمشق للمرة الأولى بعد سقوط نظام الأسد للحديث عن إعادة ترتيب العلاقات بين
الطرفين، طرحت العديد من الملفات الشائكة ، والمرحلة تطلبت إعادة مناقشتها ودراستها ليس من نقطة الصفر وإنما من النقطة التي ترك حال العلاقة عليها بعد السقوط.
طرح أثناء اللقاء مع بوغدانوف موضوع القواعد الروسية بالتأكيد ، وطرح أسعد الشيباني وزير الخارجية السوري موضوع دفع تعويضات
مالية مترتبة على موسكو بسبب دورها في الحرب السورية ، لكن كان الرد من موسكو بوضوح أنها لن تدفع تعويضات وإنما ستشارك مثلها مثل أي دولة لاعبة ، بعملية إعادة الإعمار والتنمية ولم ترحب بالأصل بفكرة تسمية هذا الدور بأنه “دفع تعويضات مقابل البقاء”.
الحفاظ على وجود القواعد الروسية على سبيل
المثال في سوريا هو ملف متعلق فقط بصفقة تفاهم بين الجانب الروسي والولايات المتحدة الأمريكية أي الدول العظمى و هو ملف غير متعلق بقبول سوري أو تركي أو أي جهة تخرج عن نطاق واشنطن وموسكو، لكن في جميع الأحوال وبناء على العلاقات التاريخية التي تربط موسكو بدمشق ، فإنها مهتمة بالملف السوري ومهتمة بتقديم الدعم
الدبلوماسي ” وهو الأهم” بالنسبة للسلطات الجديدة التي تحتاج إلى اعتراف بشرعيتها وسط فوضى المماطلة بهذا الملف، كما أنها مهتمة بتقديم دعم لوجستي واقتصادي لسوريا الجديدة وإقامة علاقات ودية بين البلدين على أساس المصالح المتبادلة، و مصالح دمشق متناغمة مع الدور الروسي، وبحسب تصريحات المسؤولين الروس
فإن الإدارة الجديدة مهتمة برفع العقوبات عنها، وتقدم نفسها بوصفها حكومة تهتم بمصالح جميع السوريين.
على المستوى الدبلوماسي والعسكري، كان لابد
من التنسيق الإيجابي بين موسكو ودمشق ، وفي المرحلة الحالية سيكون هذا التنسيق لصالح الأخيرة ، خاصة بعد أحداث الساحل وما شهده من حالات انتقام وجرائم بالجملة ارتكبت بحق المدنيين من قبل فصائل غير منضبطة، هذه الأحداث كان لها تأثيراً سلبياً على عمل الإدارة السورية الجديدة، وكان الدور الروسي إيجابياً من ناحية ضمان حل هذه المسألة دبلوماسياً عن طريق مجلس الأمن والموقف الروسي المعتدل، وكذلك من خلال المساعدة في الحفاظ على النظام في هذه المنطقة غير المستقرة بسبب مخاطر الصراعات العرقية التي وصلت إلى أعلى مستوياتها خلال الفترة الماضية، وهذا ما شهدناه عندما لجأ بعض المدنيين من الطائفة العلوية الى قاعدة حميميم الروسية طلبًا
للحماية، حيث قامت روسيا بالتحرك ديبلوماسياً والتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية لبحث وقف أعمال العنف في سوريا وضمان مصلحة الشعب السوري وحقه في الاستقرار، وأعلنت
كذلك على الفور استعدادها لتعزيز جهود الاستقرار مع تركيا مما يؤكد أنها الطرف الأكثر مبادرة لحماية المدنيين بالأطر القانونية.
أما على مستوى المساعدات ، فتعمل روسيا على تغطية احتياجات النازحين إلى قاعدتها في حميميم، كما ظهرت معلومات خلال الأيام الماضية تفيد بأن روسيا خصصت 5 ملايين دولار لسوريا عبر هياكل الأمم المتحدة كمساعدات إنسانية لشراء القمح.
روسيا بالفعل تسعى للحفاظ على تواجدها الفعال في سوريا، ومخاطر هذا الأمر مرتفعة حيث تتلاقى تركيا والدول الأوروبية والآن النخب الجديدة التي تجلس
على خط أنابيب النفط لإخراجها من شرق البحر الأبيض المتوسط ، وفي الواقع، بدأ قوس طاقة جديد يتشكل عبر العراق وسوريا، متجاوزاً الخليج الفارسي وقناة السويس. وإذا خسرت روسيا
ميناء طرطوس، فإنها لن تخسر الميناء فحسب، بل ستخسر أيضاً آخر ورقة في اللوجستيات النفطية في شرق البحر الأبيض المتوسط. فالتطورات في سوريا والبحر الأبيض المتوسط تمثل تهديدات وفرصًا في آن واحد،
ولابد لروسيا أن تبني استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار كل الأبعاد لتأمين الاستقرار والأمن والتوازن في المنطقة على المدى الطويل.