روسيا تقيم احتفالا مهيبا لعيد النصر على النازية وعلى النازيين الجدد في أوكرانيا، وتستعد للقاء القمة بين بوتين وترامب في الرياض.. وأوروبا تراقب بخوف وتتحول إلى مجرد كومبارس.
استبقت روسيا اللقاء التاريخي بين الرئيسين فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب في الثامن عشر من الشهر الجاري في الرياض لبحث الملفات الدولية والعلاقات الثنائية وتطورات الحرب في أوكرانيا وأقامت احتفالات مهيبة بمناسبة الذكرى الثمانين لعيد النصر بمشاركة دولية واسعة وبعرض عسكري مهيب أثبت من جديد تعاظم الدور الروسي الذي تنتزعه موسكو انتزاعا بقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية في ظل صراع دولي محموم بين القوى العظمى المتوزعة بين الشرق والغرب.
الاحتفالات بالذكرى السنوية لعيد النصر على النازية في الحرب العالمية الثانية تحولت هذا العام إلى احتفالات عمت روسيا بتحقيق النصر من جديد على النازية الجديدة المتمثلة بنظام زيلينسكي بعد أن أقرت الولايات المتحدة بشكل علني بانتصار روسيا في هذه الحرب فيما لا تزال أوروبا تتململ بعد استبعادها من أي مشاركة في مفاوضات الرياض بين واشنطن وموسكو لحل الأزمة ووقف إطلاق النار في أوكرانيا.
وفيما أثبتت الولايات المتحدة من خلال تغيير موقفها من الحرب في أوكرانيا بعد استلام ترامب أنها لا تزال صاحبة الكلمة العليا والكلمة الفصل فيما يتعلق بتوزيع الأدوار والنفوذ وحولت أوروبا بقضها وقضيضها إلى مجرد كومبارس في المشهد الأوكراني فقد احتفظت روسيا رغم كل العقوبات والتحولات الدولية الكبرى بدورها المتميز ومكانتها على الساحة الدولية مستندة على انتصاراتها العسكرية على أرض الميدان من جهة وعلى استغلال التحول الكبير في الموقف الأمريكي من جهة أخرى وهذا الدور انعكس على الساحة السورية بشكل خاص فالترابط بين الأزمتين الأوكرانية والسورية ليس خافيا واستخدام الأزمتين من أجل تغيير أوروبا والشرق الأوسط ليس خفيا أيضا.
فالدور الروسي لم يتراجع بعد سقوط نظام الأسد وعلى العكس كان الجميع يدعو إلى أخذ الموقف الروسي بعين الاعتبار وقام أمير قطر بزيارة موسكو بعد أيام من زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الدوحة وخلال زيارة الرئيس الشرع إلى باريس في السابع من أيار كان واضحا أن روسيا كانت حاضرة في المحادثات بين الرئيسين الشرع وماكرون من خلال سعي فرنسا لاستعادة نفوذها التاريخي السياسي والاقتصادي على الساحة السورية وقد امتنع ماكرون عن المطالبة بخروج القوات الروسية من سورية كما جرت العادة مع العلم أن وزير خارجيته طالب بخروج روسيا من سورية بعد أيام من سقوط نظام الأسد ولكن سياسة روسيا الرصينة كانت دائما تتفوق على الكراهية والتحريض الذي تبديه الدول الغربية اتجاه روسيا منذ سنوات.
واليوم تحصد روسيا نتائج انتصاراتها على النازيين الجدد وعلى النازيين في الحرب العالمية الثانية وهي ترسخ دورها كقطب أساسي من خلال علاقات قوية مع الصين ومن خلال العلاقات الخاصة التي طالما أثارت حفيظة الغرب كله التي تربط الرئيس بوتين مع الرئيس ترامب الذي لا يترك مناسبة إلا ويبدي فيها إعجابه بالرئيس الروسي كشريك وكرجل سياسي من الطراز الرفيع والذي يختلف كليا عن زيلينسكي الذي يمقته الرئيس ترامب كما يعرف الجميع.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا يزال رغم علاقاته المتميزة والخاصة مع الرئيس الأمريكي ترامب يعطي العلاقات مع الصين اهتماما كبيرا رغم التباينات في المواقف فقد استبعد ترامب روسيا من قراره بشأن الرسوم الجمركية مع أن هذا القرار شمل أوروبا والصين التي تتشبث بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا لمواجهة الولايات المتحدة رغم التناقضات بين بكين وموسكو في بعض الأحيان فقد ظهر هذا التباين بين بوتين وشي جين بينغ في الحرب الدائرة بين باكستان والهند حيث تميل الصين إلى باكستان فيما راحت روسيا باتجاه الهند مع العلم أن بوتين استفاد دائما من الموقف الصيني اتجاه الحرب في أوكرانيا لمواجهة الغرب خلال السنوات الثلاثة الماضية كما استخدم العلاقات والاتفاقيات بين موسكو والصين فزاعة ضد الغرب الذي يقف بحيرة وارتباك أمام قوة السياسة الروسية وامام نجاحات القيادة الروسية والتي حافظت على مدار ربع قرن على المحافظة على نسق تصاعدي وعلى إعادة الاعتبار لروسيا على الساحة الدولية.
اللقاءات التي يجريها الرئيس بوتين في الكرملين مع زعماء الدول الأجنبية وكان آخرها مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومع الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون ومع الرئيس الصيني شي جين بينغ والتي استبقها خلال الأسابيع الماضية بسلسلة لقاءات مع مسؤولين أمريكيين على مستويات مختلفة ولقاءات مع قادة ومسؤولين عرب حيث يبدي الرئيس بوتين اهتماما خاصا بالقضايا العربية وبالقضية الفلسطينية مع أنه يرتبط مع نتنياهو بعلاقات عدا عن الدور الروسي المحوري في سورية رغم سقوط النظام البائد ومحاولة واشنطن والغرب تظهير هذا السقوط وكأنه هزيمة لروسيا إلا أن الواقع مختلف تماما.
فالرسالة الروسية إلى العالم: إننا ما زلنا هنا في كل الساحات رغم العقوبات غير المسبوقة المفروضة علينا من قبل الغرب على خلفية الحرب في أوكرانيا ولا تزال روسيا منخرطة في مختلف الملفات الدولية ولم تتراجع عن دورها الذي يبدو اليوم متقدما على حساب الدور الأوروبي الذي يتراجع بعد قرار ترامب استبعاد أوروبا من المفاوضات الجارية حول أوكرانيا وربما يتم التعويض لأوروبا بمنحها هامشا للتحرك على الساحة السورية من خلال الدور الفرنسي الذي يسعى الرئيس ماكرون للعبه لإعادة نفوذ فرنسا ومكانتها في الشرق الأوسط وبخاصة في لبنان وسورية.
ومع أن الرئيس بوتين لا يعير اهتماما إلا بتحقيق النصر الكامل في الحرب مع أوكرانيا إلا أن سورية تبقى دائما في لب تفكيره بالنظر إلى الدور والموقع الجيوسياسي لسورية وللحفاظ على العلاقات التاريخية بين دمشق وموسكو بالإضافة إلى أن الرئيس بوتين استطاع خلال السنوات الماضية نسج علاقات متينة ومحكمة مع الصين رغم الحساسيات والتاريخ الطويل من المناكفات بين موسكو وبكين حيث جاء اللقاء بين بوتين وشي جين بينغ خلال الاحتفالات بالذكرى الثمانين للنصر على النازية والتوقيع على بيان مشترك لتعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، بمثابة تحد للغرب الذي يسعى للفصل بين القطبين الآسيويين العملاقين.
ويعزو الكثير من المحللين التقارب الروسي الأمريكي إلى كونه محاولة من ترامب لإبعاد روسيا عن الصين والحيلولة دون قيامهما بشن حرب مشتركة ضد الغرب وذلك عبر الاعتراف بمكانة روسيا وإعطائها دورا متميزا على حساب الصين وهذا لا يزعج بكين بطبيعة الحال رغم أن الصراع تاريخي ومتجذر بين النظام الشيوعي في الصين والنظام الرأسمالي الإمبريالي في الولايات المتحدة وهذا الصراع الأيديولوجي خرجت منه روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي قبل 35 عاما.
وفي إطار هذا المنحى لا ينسى الرئيس بوتين موقع كوريا الشمالية في هذا الصراع فقد كان لمشاركة بيونغ يانغ في تحرير كورسك من الاحتلال الأوكراني أثر عميق في الوجدان الروسي وكان أيضا طعنة نجلاء ضد نظام زيلينسكي وحلفائه ولا شك أن التفاهمات الروسية الأمريكية ستمنح روسيا هامشا كبيرا للحركة في كل الاتجاهات باتجاه الشرق نحو روسيا والهند وباتجاه الشرق الأوسط حيث تقيم موسكو علاقات قوية مع مصر التي حضرت بقوة عسكريا وسياسيا في احتفالات عيد النصر هذا العام عدا عن قبول الولايات المتحدة للدور الروسي في سورية في وقت تسعى فرنسا لتحل محل إيران في الساحل السوري وتقوم بدور الوسيط بين الحكومة السورية وقوات سورية الديمقراطية بينما تحتفظ روسيا بدورها التاريخي وبعلاقاتها الاستراتيجية مع الحكومة السورية والشعب السوري دون أن تتأثر بالتغيرات التي شهدتها البلاد بعد سقوط النظام وهذا بحد ذاته إنجاز كبير لروسيا التي تتمدد أيضا في الشمال الإفريقي بشكل أزعج فرنسا والدول الغربية.
وربما علينا أن ننتظر الاجتماع التاريخي بين بوتين وترامب في الثامن عشر من أيار والذي يعتبره البعض بمثابة مؤتمر يالطا جديد في الرياض لكي نتعرف على خارطة النفوذ الدولية وحجم التعاون الروسي الأمريكي لتأمين استقرار المنطقة والعالم.
ولا شك أن العالم الجديد المنتظر ليس إلا انعكاسا للصراع الكبير الذي شهدته أوكرانيا وسورية وشاركت فيه معظم دول العالم وكما شاركت روسيا في رسم خارطة العالم بعد الحرب العالمية الثانية ها هي اليوم بهذه المقايضة بين أوكرانيا وسورية تشارك في رسم خارطة جديدة للعالم ربما للمائة عام القادمة.