يبدو أن المبعوث الأمريكي توم باراك لم يعد مجرد مبعوث شخصي للرئيس الأمريكي إلى سورية، بل أصبح بعد أحداث السويداء بمثابة “مندوب سامٍ”. حركته الدؤوبة بين بيروت وعمان وباريس وأنقرة (حيث يشغل منصب سفير الولايات المتحدة في تركيا) وواشنطن، إضافة إلى لقاءاته مع القيادة السورية وقيادة قوات سورية الديمقراطية والدروز وكيان الاحتلال الإسرائيلي، تشير إلى أنه ينفذ مخطط الشرق الأوسط الجديد، حيث كانت السويداء نقطة البداية.
لم يعد باراك يغيب عن وسائل الإعلام منذ تعيينه في هذا المنصب، وهو الذي تربطه بترامب صداقة قديمة وأعمال مشتركة. تعيينه رغم منصبه الكبير كسفير في تركيا يؤكد أن الملف السوري أصبح أولوية في أجندة ترامب، الذي أشاد أكثر من مرة بالرئيس الشرع منذ لقائهما في الرياض بحضور ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان.
خلال اجتماعاته المكثفة مع القادة العرب والأجانب، يبدو أن الولايات المتحدة أصبحت تمتلك مفاتيح اللعبة في سورية دون منازع. تصريحات باراك تؤكد أن واشنطن باتت “الآمر الناهي” في كل ما يتعلق بسورية: فهي تتحكم بالوضع في شمال شرق سورية عبر علاقاتها مع قسد، وفي السويداء عبر الاتفاق الإسرائيلي-الدرزي لمنع دخول الجيش السوري، وتضغط على حكومة الشرع عبر تمديد مجلس الشيوخ الأمريكي لعقوبات “قيصر” رغم إعلان ترامب رفعها.
بعد مجازر الساحل في آذار الماضي، زار مظلوم عبدي دمشق على متن طائرة أمريكية ووقع “اتفاق العاشر من آذار” مع الرئيس الشرع، مما أثار حفيظة تركيا. منذ ذلك الحين، أصبح التدخل الأمريكي مباشراً، وبات باراك يقوم بجولات تذكر بزيارات المبعوث الأمريكي فيليب حبيب بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، لكن بفارق جوهري: المنطقة اليوم رهينة الشروط الأمريكية.
في السويداء، نجح التحالف الأمريكي-الإسرائيلي في فرض شروط الدروز بمنع الجيش السوري وإنشاء إدارة محلية، بل وتهجير البدو قسراً بدعم إسرائيلي. وفي شرق الفرات، أعلنت قسد رفضها تسليم السلاح أو الاندماج بالجيش السوري. هذه الخطوات قلصت النفوذ التركي بشكل كبير، خاصة بعد استبعاد أنقرة من اجتماعات باريس الثلاثية (أمريكي-فرنسي-سوري) حول السويداء.
المعركة القادمة ستكون على الساحل السوري (ثروات النفط والغاز)، حيث تسعى واشنطن وباريس لإقصاء تركيا وروسيا. لكن أي محاولة لاستبعاد موسكو قد تشعل مواجهة حقيقية، خاصة أن الغرب يتصرف وكأن باراك أصبح “حاكماً عاماً” على سورية ولبنان، لا مجرد مبعوث.
رغم الضغوط الأمريكية للتطبيع مع إسرائيل، فإن حكومة دمشق ملتزمة بالموقف العربي الموحد. لكن خسارة السويداء (التي تعادل عشرات أضعاف مساحة الجولان المحتل) تضعها في مأزق: الدروز والأكراد باتوا أقرب إلى إسرائيل، والاقتصاد منهك، والفصائل المنفلتة تزداد جرأة. التحديات القادمة -خاصة في الساحل- قد تحدد مصير سورية لسنوات، في ظل صراع دولي تزداد حدته.