قمة منظمة شنغهاي في مدينة تيانجين الصينية الساحلية تجمع التنين والفيل والدب وتقلق الثور الهائج في واشنطن… رسائل في الظاهر اقتصادية وأمنية… وفي الباطن استراتيجية وعسكرية إلى الناتو….. وبوتين النجم بين قمتين.. قمة شنغهاي مع شي جين بينغ.. وقمة ألاسكا مع ترامب..
تزينت طاولة قمة شنغهاي بأقطابها الثلاثة التنين الصيني والدب الروسي والفيل الهندي مع مجموعة دول شنغهاي والدول المشاركة في القمة بصفة مراقب، تزينت بسلسلة لقاءات سياسية غير مسبوقة وببيان وضع استراتيجية للعمل المشترك والتعاون حتى العام 2035، بالإضافة إلى عرض عسكري صيني مهيب في بكين بمناسبة مرور ثمانين عاما على الانتصار على اليابان في الحرب العالمية الثانية بحضور الرئيس شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانب عدد كبير من القادة والرؤساء، وذلك في رسالة صينية مزدوجة موجهة أولا إلى الولايات المتحدة والغرب، كما أنها موجهة إلى حلفاء الصين وخاصة روسيا وإيران بأن لا يقلقوا ولا يخشوا من العقوبات الاقتصادية الغربية ضدهما…
في أيلول تجتمع الجمعية العامة في نيويورك وتقدم الدول كشف حساب عن سياساتها، أما في بكين وتيانجين فقد كانت الأيام الأربعة الأولى من أيلول بمثابة عرض صيني مستمر بالسياسة والتعاون والأمن والاقتصاد والقوة العسكرية. أرادت الصين في بداية القمة التي عقدت في مدينة تيانجين الساحلية توجيه رسالتها الأمنية والاقتصادية بهذه اللقاءات الثنائية التي سبقت وأعقبت القمة بين الثلاثي الروسي والهندي والصيني ومعهم طبعا الإيراني والتركي والإندونيسي، بالإضافة إلى اللقاءات الثنائية بين قادة الدول المشاركة كمراقب ومنها ست دول عربية تتقدمها السعودية ومصر. كما وجهت القمة رسالة عبر الكلمات التي ألقاها قادة منظمة شنغهاي العشرة والتي تركزت على التعاون الاقتصادي ورفض التدخلات الأجنبية ومكافحة الإرهاب، ليصدر البيان الختامي بهذه المعاني الجديدة التي أكدتها الصين من خلال طرح استراتيجية المنظمة حتى العام 2035 والتي أساسها تعزيز الثقة السياسية بين الدول الأعضاء ورؤية الصين لحوكمة العالم، خاصة وأن الرئيس الصيني شي جين بينغ يسجل له أنه استطاع أن يجمع قادة الهند وباكستان وقادة أرمينيا وكازاخستان على طاولة واحدة، ونجح في عقد لقاء قمة هو الأول منذ سبع سنوات مع رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي وحديثه اللافت عن حضارة الهند والصين ورقصة الفيل والتنين معا…
أما عن المشاركة الروسية وحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جميع الفعاليات في مدينتي تيانجين وبكين، فإن الزيارة بما تضمنته من عمل متواصل ولقاءات ثنائية وبما استغرقته من وقت طويل لمدة أربعة أيام تحتاج إلى مجلد لمعرفة تفاصيلها ورسم أهدافها التي هدفها استعادة التوازن بين الغرب والشرق. ويكفي الإشارة إلى ما قاله الرئيس الصيني شي جين بينغ عندما وصف العلاقات مع روسيا بعد لقائه مع الرئيس بوتين بأنها وصلت إلى مستوى لم تبلغه عبر تاريخ البلدين، وهي كذلك فعلا فقد التقى الرئيسان شي وبوتين أكثر من أربعين مرة، وهذا يكفي للدلالة على عمق الثقة بينهما. ولا بد من الإشارة أيضا إلى شكل الزيارة الذي حمل أيضا بالإضافة إلى مضمونها معاني ودلالات عميقة بشأن مستقبل العلاقات بين العملاقين الآسيويين روسيا والصين. فالرئيس بوتين تصرف كأنه ابن البلد، وفي هذا المعنى نشير إلى موكب الرئيس بوتين الذي انطلق من مدينة تيانجين الصينية الساحلية حتى العاصمة بكين بمسافة استغرقت أكثر من ساعة ونصف، وذلك بعد أن عقد الرئيس بوتين لقاءات متعددة مع نظرائه الصيني شي جين بينغ والهندي ناريندرا مودي والإيراني مسعود بزشكيان والتركي رجب طيب أردوغان. ولا شك أن لقاء الرئيس بوتين مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب قبل أسبوعين في ألاسكا والمحادثات التي جرت بينهما حول أوكرانيا والشرق الأوسط والأزمات الدولية والحرب التجارية التي تخوضها إدارة ترامب ضد عدد كبير من دول العالم، كانت في صلب محادثات الرئيس بوتين مع قادة هذه الدول. كما أكد الرئيس بوتين بأنه اطلع نظيره الصيني حول فحوى محادثاته مع ترامب مؤكدا بخصوص الحرب في أوكرانيا أنه تم قطع شوط هام في موضوع حل الأزمة في أوكرانيا. وأشار بوتين إلى أن التفاهمات التي أحرزت في قمة ألاسكا تفتح الطريق نحو السلام في أوكرانيا.
هي إذن رسائل بالجملة سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية أرادت الصين إيصالها إلى الغرب بقيادة ترامب. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الصين تريد أن تصل إلى أهدافها بالقوة الناعمة وترسيخ السلام والأمن الدوليين من خلال مشاريع أمنية تقوم بها منظمة شنغهاي عبر ضبط الحدود ومحاربة الإرهاب ورفض التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وعبر مشروع البريكس الإنمائي والاقتصادي الذي يهدف في نهاية المطاف إلى تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي وبناء منظومة جديدة للتجارة العالمية لا تخضع للولايات المتحدة، وعبر مشروع الحزام والطريق الذي يربط الصين بالعالم من خلال مشاريع تنمية مستدامة ومحاربة الفقر والجوع والحفاظ على سيادة الدول المستقلة.
قمة هي قمة أمنية اقتصادية في ظاهرها ولكنها قمة تحمل رسائل استراتيجية في باطنها، وهي قمة تحد الغرب بأكمله بدليل العرض العسكري الباهر الذي أقامته بكين بمناسبة مرور ثمانين عاما على حربها مع اليابان، وهي حرب الاستقلال التي أدت إلى مقتل عشرين مليون صيني، وهذا الرقم لم تقدمه أي دولة سوى روسيا التي ضحت بـ 25 مليون روسي خلال الحرب العالمية الثانية عندما حققت نصرا كبيرا على هتلر والنازية.
العالم يتغير وتقود الصين هذا التغيير وهذا التحول الكبير في موازين القوى الدولية، وتأخذ المواجهة بين الشرق والغرب أشكالا متعددة، وربما تستطيع الصين الوصول إلى أهدافها بدون إشعال الحروب كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية. خاصة وأن دول منظمة شنغهاي تشكل نصف سكان العالم و35 بالمئة من موارده. وربما تكون شنغهاي اقتصاديا أكثر فاعلية من الناتو عسكريا، طالما أن الصين تعتمد أسلوب الردع من خلال إظهار قوتها الهائلة لدرجة أن أي دولة أخرى ستكون عاجزة عن الوقوف في وجه التنين الصيني الذي يسير جنبا إلى جنب وخطوة بخطوة مع الدب الروسي. وإذا ما استطاعت الصين وروسيا اجتذاب الفيل الهندي، فإن العالم عندها سيكون مختلفا وأكثر أمانا وسلاما. وحتى الآن نجحت الصين باستخدام القوة الناعمة، غير أن الخشية من أن تقوم واشنطن باستغلال التناقضات بين دول شنغهاي لإشعال الحروب والفتن والتدخل أحيانا كما فعلت أخيرا خلال الحرب بين إسرائيل وإيران، ومن خلال إشعال الحرب التجارية وقد فرضت رسوما جمركية على الهند وهي حليف تقليدي للولايات المتحدة بنسبة قدرها 50 بالمئة، وهي نسبة عالية جدا جعلت الهند تلجأ بشكل تلقائي إلى الصين العملاق الاقتصادي. وربما يؤدي التنمر الأمريكي على دول العالم ومواصلة الحرب التجارية التي يقودها ترامب إلى تحول منظمة شنغهاي إلى تحالف عسكري بقيادة الصين وروسيا لمواجهة حلف الناتو الذي يعتمد الحروب للهيمنة على العالم، وهذا يتعارض مع القانون الدولي ومع أهداف منظمة شنغهاي والبريكس ومشروع الحزام والطريق التي تقودها الصين من أجل مستقبل أفضل للعالم…