اشتدي أزمة تنفرجي، ارتفاع الأسعار وهبوط الليرة السورية لأول مرة منذ فجر التحرير في الثامن من كانون الأول عام 2024 تزامنت مع إطلاق الرئيس أحمد الشرع صندوق التنمية السوري لجمع التبرعات لإعادة البناء والإعمار، وذلك على إيقاع التحضيرات للانتخابات البرلمانية المقررة في الخامس عشر من أيلول لانتخاب 210 أعضاء يشكلون مجلس الشعب وفق نظام انتخابي خاص ومؤقت، حيث يقوم 7000 سبعة آلاف عضو يشكلون هيئات انتخابية باختيار 140 عضوا من إحدى عشرة محافظة، فيما يعين الرئيس الشرع 70 عضوا بشكل مباشر، مع الإشارة طبعا إلى إلغاء الانتخابات في محافظات السويداء والحسكة والرقة جراء الأوضاع الأمنية والسياسية ورفض الدروز والأكراد تسليم السلاح والانضواء داخل الدولة…
هذه الخطوات الاقتصادية والسياسية بشأن إطلاق صندوق التنمية السوري وإجراء الانتخابات البرلمانية قبيل توجه الرئيس الشرع لإلقاء كلمة سورية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 24 الجاري، هذه الخطوات أثارت تساؤلات مشروعة إيجابية وسلبية، فيما لا يزال الشارع السوري في حالة من الترقب والانتظار والقلق، خاصة في المناطق التي تسكنها الأقليات في الساحل والسويداء وشرق الفرات. أما التساؤلات الإيجابية فقد جمع صندوق التنمية 65 مليون دولار خلال الساعة الأولى لإطلاقه في الثالث من أيلول في قلعة دمشق، كما اختتمت بنجاح الدورة 62 لمعرض دمشق الدولي الذي شهد حضورا عربيا وإقليميا ودوليا، في رسالة تحمل طابعا وطنيا مفادها أنه لا يحك جلدك إلا ظفرك، وأنه لا بد من الاعتماد على الذات، وعدم المراهنة على الخارج، على الرغم من أن قطر والسعودية ودول الخليج عامة وتركيا لا تزال تبدي حماسة كبيرة في دعم إعادة تعافي سورية، بينما تراجع الحماس الأوروبي اتجاه الحكومة السورية بسبب وجود قوى منافسة إقليمية ودولية أكثر تأثيرا على الساحة السورية كإسرائيل وتركيا والولايات المتحدة وروسيا، وبعد رفض الحكومة السورية المشاركة في اجتماعات باريس الهادفة إلى تنفيذ اتفاق العاشر من آذار، وهو الاتفاق الذي بقي حبرا على ورق بعد أن رفضت قسد التي تضم أكثر من مئة ألف عنصر مدربين بشكل جيد من قبل الجيش الأمريكي تنفيذ الاتفاق، وسعت بعد أحداث الساحل والسويداء وتفجير الكنيسة في الدويلعة بدمشق إلى تسريع خطوات إقامة الإدارة الذاتية وفصل محافظات الرقة والحسكة ودير الزور مع أجزاء من حلب وإدلب، ونشير في هذا الصدد إلى الاشتباكات العنيفة بين قوات سورية الديمقراطية والجيش السوري، حيث تستعجل تركيا القضاء على هذه القوات الانفصالية باعتبارها خطرا مشتركا على وحدة سورية وعلى الأمن القومي التركي، مع العلم أن تركيا تضم عشرين مليون كردي وتخشى إذا ما حصل الأكراد في سورية على كيان مستقل أن يكون ذلك دافعا لأكراد تركيا للمطالبة بالانفصال أيضا…
ومع أن الهاجس الاقتصادي والأمني يشغلان السوريين في حلهم وترحالهم على امتداد الجغرافيا السورية، غير أن التدخل الإسرائيلي يؤثر بشكل كبير على مجرى الأحداث سياسيا وأمنيا، فيما لا تزال الدولة السورية تعاني من الوهن والضعف وهي تمر بأصعب مرحلة في تاريخها بعد أن فقدت خلال الحرب التي استمرت 15 عاما معظم أوراق قوتها العسكرية والاقتصادية، حيث استغلت إسرائيل سقوط النظام في الثامن من كانون الأول الماضي وهاجمت بشكل هستيري عشرات المواقع السورية في معظم المناطق ودمرت معظم القدرات العسكرية السورية والدفاعات الجوية، وباتت سورية عمليا خالية من أي قوة عسكرية حقيقية وباتت عاجزة عن مواجهة التحديات الداخلية الناتجة عن التدخل الإسرائيلي، فالقصف الإسرائيلي في وسط البلاد والساحل يستهدف الوجود التركي والفصائل المنضوية تحت لواء وزارة الدفاع، أما القصف في الجنوب فهو يأتي في سياق دعم الخطوات التي يتخذها الدروز في السويداء لإقامة كيان لهم في ظل حرب دعائية وتحريضية إسرائيلية لإشعال الفتنة والانقسام بين السوريين لتحقيق أهداف إسرائيل الكبرى ومشروع الشرق الأوسط الجديد… مع أن الموقف الوطني الذي يجسده أبناء جبل العرب لا يحتاج إلى إيضاح وإلى أدلة وبراهين، فالتاريخ خير شاهد على وقوف أبناء الجولان السوري المحتل في وجه الاحتلال دفاعا عن سيادة سورية طوال عقود، وكان سلطان باشا الأطرش قائدا للثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، وهذا التاريخ يؤكد أن التيار الانفصالي في السويداء لا يمثل إلا طبقة من رجال الدين الذين ينظرون إلى الواقع السوري من زاوية واحدة فقط بعد الأحداث المؤلمة التي شهدتها المحافظة في تموز الماضي، وقد أعطت هذه الأحداث الانفصاليين مبررا للدعوة إلى مشروع التقسيم التي تعمل عليه إسرائيل، حيث أعلن الشيخ حكمت الهجري رفضه الانتخابات البرلمانية وأعلن عن تشكيل الحرس الوطني الخاص بالسويداء ورفض دخول الجيش وقوى الأمن الداخلي إلى السويداء، وهذا الموقف ساهم بطريقة أو بأخرى بتشجيع الأكراد في شمال شرق سورية على تسريع خطوات التقسيم والمطالبة بحكم ذاتي كامل ورفض تنفيذ اتفاق العاشر من آذار والمطالبة بتعديله، كما رفض الأكراد أسوة بالدروز المشاركة في الانتخابات البرلمانية، وصعدت قيادة قسد بعد زيارة القيادية الكردية البارزة الهام أحمد إلى دمشق من لهجتها اتجاه الحكومة السورية ورفضت بشكل قاطع دمج قوات سورية الديمقراطية مع الجيش السوري وسط مطالبة جادة بالعودة إلى القرار 2254 كمخرج وحيد من حالة الاستعصاء التي تمر بها العملية السياسية في سورية…..
ومع أن جميع دول العالم تدعم وحدة سورية، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وخطوات تقسيم سورية لا تجد عمليا من يقف في مواجهتها، ولم يكن أحد يتخيل تسارع الأحداث في السويداء وشرق الفرات، حيث إن إسرائيل تدفع بكل قوة لاقتطاع السويداء وخلق كيان درزي كدرع لكيانها، وهو ما طالب به منذ العام 1954 رئيس وزراء إسرائيل بن غوريون، فيما تدعم الولايات المتحدة إقامة كيان للأكراد رغم أنها قامت بتعيين مبعوث خاص لسورية هو توم باراك وهو يقول شيئا ويفعل عكسه ويحترف الكذب والنفاق، فأمريكا ربما تكون اتفقت مع الحكومة على خطوات تنفيذ اتفاق العاشر من آذار مع الأكراد، ولكنها تفاجئت بأحداث السويداء، مع الإشارة إلى أن دعم واشنطن للأكراد في سورية والعراق ليس بجديد، وهي تمنع تركيا من القيام بأي عملية عسكرية ضد قوات سورية الديمقراطية، بينما يرى البعض أن التصريحات الأمريكية حول وحدة وسيادة سورية ليست إلا نوعا من المراوغة والخداع، ولو أن واشنطن جادة وصادقة في دعوتها لوحدة سورية لما تمكن الأكراد وهم يشكلون أقل من 40 بالمئة من سكان المنطقة الشرقية من إقامة كيان أو إدارة ذاتية، ولما تمكنوا بدعم وإشراف أمريكا من نهب وسرقة النفط والغاز والقمح وهي ثروات ملك لكل الشعب السوري وليس لأمريكا وقوات سورية الديمقراطية…
ويبدو أن الصراع بين تركيا وكل من إسرائيل في الجنوب السوري، وبين تركيا والولايات المتحدة في مناطق شرق الفرات بدعوى حماية الدروز والأكراد، بدأ يتسع ويتمظهر بشكل واضح على الساحة السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد البائد واستلام التيار الإسلامي بقيادة الرئيس أحمد الشرع مقاليد السلطة في سورية… فالقصف الإسرائيلي على المواقع التي يحتمل أن تضم جنودا أتراك في وسط وجنوب سورية ازداد واتسع، كما أن الاشتباكات بين قوات سورية الديمقراطية والجيش السوري المدعوم من تركيا تصاعدت بشكل ملحوظ، وسط استعدادات لا تتوقف من قبل جميع الأطراف المتنازعة للمعركة التي يرى المراقبون أنها حتمية ولا مفر منها إذا ما رفض الأكراد تنفيذ اتفاق العاشر من آذار، خاصة بعد أن أصبح واضحا أن الولايات المتحدة التي تدعم العشائر العربية لا تريد من هذه العشائر سحب أبنائها من تشكيلات قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات، وهذا ما تراهن عليه السلطة في دمشق وتركيا أيضا، غير أن عملية بناء قوات سورية الديمقراطية استغرقت سنوات طويلة وأصبحت هذه القوات بمثابة جيش نظامي كبير له شعاراته وتدريباته وتكتيكاته، ويحمل مشروعا انفصاليا كاملا، وبالتالي سيكون من الصعوبة بمكان في ضوء المواقف التي أعلنها السياسة الأكراد مؤخرا تغيير الواقع دون تدخل عسكري مباشر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تركيا نفسها رغم الخطر الذي يهددها يمكن لها أن تراوغ الأمريكيين وتقبل في نهاية المطاف بالإدارة الذاتية مقابل الحصول على نفوذ أكبر في سورية والسماح لها بالدخول في الاستثمارات الغازية السورية المكتشفة على شاطئ المتوسط، والاستفادة أيضا من علاقاتها الوطيدة مع حكومة دمشق حيث تغزو المنتجات التركية سورية من شمالها إلى جنوبها، كما أن سورية تعد معبرا للبضائع التركية إلى الخليج والمغرب العربي والأردن ومصر.
ومع أن هذه الأطراف الثلاثة أمريكا وإسرائيل وتركيا باتت تتحكم بشكل كبير في مجريات الأوضاع في سورية، غير أن التأثير الأمريكي يبقى هو الحاسم، كما أن للمواقف التي سيعلنها الرئيس الشرع في نيويورك في خطابه أمام الجمعية العامة في الرابع والعشرين من أيلول وربما يغير هذا الخطاب الصورة كليا، خاصة مع استمرار التسريبات حول احتمال لقائه مع نتنياهو برعاية أمريكية والتوقيع على اتفاق أمني مع إسرائيل بعد رفع اسم هيئة تحرير الشام واسم الرئيس الشرع عن لوائح الإرهاب، حيث لا تزال الصين تعارض بشدة رغم كل الوساطات رفع اسم الرئيس الشرع وهيئة تحرير الشام عن لوائح الإرهاب الأممية.
وفي حال حصول هذا السيناريو الذي تم التحضير له من خلال لقاءات الوزير الشيباني مع المسؤولين الصهاينة وبالأخص مع دان ديرمر، وإذا حصل والتقى الشرع مع نتنياهو مع استمرار الدعم الخليجي لحكومة الشرع، ربما بهذه الحالة تستطيع سورية التقاط أنفاسها وامتلاك زمام المبادرة من جديد، ومنع انفصال السويداء ووقف الخطوات الانفصالية للأكراد، وإلا فإن سورية في ظل الانقسامات الداخلية الحادة ونقص الإنتاج والجفاف وانحسار المطر والظروف المناخية القاسية والحروب الطائفية التي تغذيها إسرائيل وأمريكا تتجه إلى المزيد من الفوضى، والمزيد من الخوف، والمزيد من الانقسام، ولا بد من الإشارة إلى أنه رغم استمرار أعمال القتل والنهب وعمليات الخطف في مناطق الساحل، فإن أبناء الساحل ما زالوا متمسكين مع إخوانهم من المكونات الأخرى في الساحل بوحدة سورية، وهذا الموقف الوطني التاريخي لأبناء الساحل يعد عاملا هاما للحفاظ على الدولة السورية الواحدة، ذلك أن أبناء الساحل منخرطين بشكل كبير في مؤسسات الدولة وهم لا يرغبون بالتقسيم رغم كل التصرفات والممارسات والمخاوف التي يعيشون داخلها، ذلك أن كلفة الانقسام كبيرة وباهظة، وأما الوضع والظروف الحالية فإنها مؤقتة ولن تستمر بفضل تكاتف السوريين وإصرارهم على تجاوز هذه الأوضاع، وبفضل دعم الإخوة والأصدقاء والحلفاء الروس وتركيا ودول الخليج، وهذه الأطراف تخشى أن تنتقل إليها عدوى التقسيم والانفصال أيضا.
…. ومن يحفر حفرة لأخيه يقع فيها.