بولندا تطلق آخر طلقة في جعبتها لمواصلة الحرب في أوكرانيا وتغلق حدودها مع بيلاروس.. وزيلينسكي يشكو نقص الإمداد وتكلفة الباتريوت ويعلن لأول مرة قبوله بالتفاهمات الروسية الأمريكية ولقاء بوتين…
تحولات الميدان في الحرب في أوكرانيا أدت إلى تحولات في السياسة، وبيانات وزارة الدفاع الروسية تؤكد ذلك كما تؤكدها تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي يكابر ويرفض الاستسلام ويواصل الرهان على حلفائه في أوروبا بعد أن فقد الدعم الأمريكي منذ دخول الرئيس ترامب البيت الأبيض. وجاءت التفاهمات لإيقاف الحرب بين الرئيس بوتين والرئيس ترامب في ألاسكا لوضع حدا لأوهام زيلينسكي الذي أقر بالعجز وأكد بعد سنوات من المكابرة والتبجح بهزيمة روسيا بأن الأسلحة الأوروبية غير فعالة. ولأول مرة يغير زيلينسكي لهجته ويعلن استعداده لوقف القتال، حيث قال إنه يمكن للولايات المتحدة دفع بوتين للحوار أو تنظيم لقاء بين القادة بأي شكل، والمهم هو وقف أعمال القتل، ورحب زيلينسكي بمقترحات الرئيس ترامب بعقد لقاء ثلاثي يجمع بينه وبين الرئيس بوتين بحضور الرئيس الأمريكي. وفيما وصلت الجهود لوقف القتال في أوكرانيا إلى مرحلة متقدمة بعد أن تراجعت أوروبا عن دعم نظام كييف ليس بسبب قناعتها بذلك وإنما بسبب عجزها أمام الجيش الروسي الذي حقق انتصارات باهرة وتقدما كبيرا بعد قمة ألاسكا، في وقت كادت المناورات المشتركة السنوية بين الجيش الروسي والقوات البيلاروسية أن تسبب حالة من الخوف والقلق في كل أوروبا، مع أن المناورات روتينية وتم الإعلان عنها مسبقا، غير أن بولندا اعتبرت المناورات تهديدا لأمنها وقامت بإغلاق حدودها مع بيلاروس، كما أعلنت عن إسقاط عشرين طائرة روسية مسيرة، الأمر الذي استغربته وزارة الدفاع الروسية التي أكدت أنها لم تستهدف الأراضي البولندية، فيما قال الرئيس الأمريكي إن إطلاق الطائرات الروسية المسيرة كان خطأ ولم يكن أمرا مقصودا، بينما أعرب وزير خارجيته جي دي فانس عن قلقه من الحادث.
التصعيد البولندي الواسع دعا إلى اجتماعات من قبل الناتو، خاصة مع وجود قوات أمريكية على الأراضي البولندية، مع الإشارة إلى أن بولندا منذ بداية الحرب كانت خنجرا في خاصرة روسيا، وكانت ممرا للمرتزقة وجسرا لمرور الأموال والأسلحة الضخمة، وكانت مركزا هاما لإيصال كل مستلزمات استمرار الحرب، ولهذا كان التصعيد البولندي ضد روسيا له خطورة كبيرة، غير أن الموقف الأمريكي لجم قيادة وارسو واندفاعتها لزيادة التوتر في وسط أوروبا.
ويبدو أن أوروبا المنقسمة والضعيفة دون أمريكا أرادت أن تخرج من المواجهة، فدفعت بولندا إلى الواجهة لتكون رأس حربة بعد أن اكتشفت أنها أضعف من أن تغير أي شيء في موازين القوى التي تميل بشكل واضح لصالح روسيا، خاصة بعد إعلان ترامب الموافقة على المطالب الروسية وإقراره بأحقية روسيا لإدارة منطقتي لوغانسك ودونيتسك في شرق أوكرانيا اللتين يتكلم سكانهما الروسية… حتى أن زيلينسكي نفسه بدأ يدرك أن القارة العجوز لا يمكنها أن تعوضه عن الدعم الأمريكي، خاصة وأن فرنسا وألمانيا تواجهان أزمات اقتصادية وسياسية نتيجة تكاليف الحرب في أوكرانيا، وقد عزا البعض سقوط حكومة بايرو في فرنسا إلى تكاليف الحرب وتداعياتها وإلى موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يدفع باتجاه استمرارها…
ومن يتابع تصريحات واقتراحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي السابقة والحالية يدرك المأزق الذي تمر به أوكرانيا والاتحاد الأوروبي جراء رفض التفاهمات التي توصل إليها الرئيسان فلاديمير بوتين ودونالد ترامب خلال قمة ألاسكا، فالأسلحة التي كان يحصل عليها زيلينسكي قبل عامين وبكميات هائلة لا يمكنه اليوم الحصول عليها بعد الموقف الأمريكي الذي اتخذه ترامب بوقف تمويل الحرب، حيث وجد زيلينسكي نفسه وحيدا في المعركة.
فالنجاحات الميدانية الروسية والنجاحات الروسية السياسية في قمتي شنغهاي وألاسكا لم تترك لزيلينسكي سوى طريق واحد هو طريق السلام، ولهذا فإنه بعد أن رفض دعوة موسكو للسلام عاد اليوم وأعلن استعداده للقاء الرئيس بوتين…
وربما تكون الأزمة مع بولندا والمناورات الروسية البيلاروسية ومزاعم بولندا بشأن اختراق عشرات الطائرات المسيرة الروسية حدودها في التاسع من أيلول الجاري جرس إنذار لأوروبا كلها بأن استمرار الحرب سيؤدي إلى عواقب وخيمة لا تحمد عقباها، وستتحول إلى حرب عالمية ثالثة تهدد أمن أوروبا بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن إيقافها بعد قرابة أربع سنوات على اشتعالها أصبح أولى أولويات الرئيس الأمريكي للمحافظة على الأمن والسلام في أوروبا، ومن المتوقع أن تشكل الاجتماعات السياسية المكثفة في موسكو في السابع عشر من أيلول، والتي تسبق اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث سيكون موضوع الحرب في أوكرانيا على جدول أعمال الجمعية وعلى رأس أولوياتها، بالنظر إلى دخول أوروبا في قلب الصراع بعد انسحاب إدارة ترامب من المعركة، وربما إذا فشلت الجهود الدبلوماسية وأعلنت إدارة ترامب فشل جهودها لوقف الحرب، فإن التصعيد العسكري سيكون حتميا في غياب الدبلوماسية، وهذا ما بدأت تخشاه أوكرانيا وأوروبا كلها، خاصة بعد التصعيد الخطير بين روسيا وبيلاروسيا من جهة وبين بولندا من جهة ثانية، ما يشكل خطرا على أوروبا كلها….
ولا بد أن نفهم خطورة المرحلة التي تمر بها الحرب في أوكرانيا من الحذر الأمريكي ومن التصرفات الأمريكية التي تسعى إلى خفض التصعيد ووقف القتال، ومن هنا جاء رد الفعل الأمريكي على اختراق مسيرات روسية المجال الجوي البولندي، حيث أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن ذلك مجرد خطأ، ولم تكترث إدارة ترامب بالضجة التي أثارتها بولندا ودول الاتحاد الأوروبي، وذلك في إطار معارضة هذه الدول إيقاف الحرب في أوكرانيا ومحاولة إظهار روسيا بمظهر المعتدي الذي لا يكتفي بالحرب في أوكرانيا وإنما يحاول توسيع الحرب وغزو بولندا، غير أن روسيا جددت مطالبها وشروطها وأعلنت استعدادها للحوار مع نظام كييف، واعتبرت أن مزاعم بولندا محاولة للتشويش على الرسالة التي أرادت موسكو ومينسك إيصالها عبر المناورات العسكرية التي تعد تدريبات سنوية، غير أن بولندا أرادت أن تستغل هذه المناورات للتصعيد ضد بيلاروس، وقامت وارسو بإغلاق الحدود مع بيلاروس، وهذا استدعى ردا روسيا عبر الخارجية، وقالت ماريا زاخاروفا إن روسيا تحث بولندا على النظر في عواقب إغلاق الحدود مع بيلاروسيا وإعادة النظر في القرار في أقرب وقت ممكن. وأضافت أن الخطوات العدائية التي تتخذها بولندا تهدف إلى تبرير اتخاذ موقف يؤدي إلى مزيد من تصعيد التوترات في وسط أوروبا.
التصرفات الخطيرة لبولندا بدأت مع اندلاع الحرب وتطورت حتى أصبحت بولندا مركزا هاما لتمويل الحرب، فكانت ممرا للمرتزقة والأسلحة، عدا عن مشاركتها الفعلية والمباشرة في احتلال كورسك الروسية قبل أن يتم تحريرها قبل عدة أشهر. وقد عرض الإعلام الروسي جنودا بولنديين وألمان وبريطانيين شاركوا في احتلال كورسك إلى جانب القوات الأوكرانية…
وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة هامة وهي أن الأزمة والتصعيد مع بولندا يأتي في وقت تجري الاستعدادات الجدية لعقد اجتماع ثلاثي يجمع الرئيس بوتين مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي والرئيس ترامب الذي وعد منذ دخوله البيت الأبيض بالعمل على وقف الحرب في أوكرانيا، ولا يزال يحاول، وقد حققت الجهود الأمريكية تقدما كبيرا، وقال ترامب إنه توصل مع الرئيس بوتين إلى حل معظم القضايا ولم يتبق لوقف الحرب في أوكرانيا إلا القليل.