في مشهد يعكس استمرار التقارب بين دمشق وموسكو، وصل وفد عسكري سوري رفيع المستوى برئاسة رئيس هيئة الأركان العامة، اللواء علي النعسان، إلى العاصمة الروسية موسكو في أوائل أكتوبر2025 . هذه الزيارة التي استقبلها نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يكفيروف، لم تكن مجرد لقاء روتينياً، بل جاءت في إطار تطوير آليات التنسيق بين وزارتي الدفاع في البلدين، وتعزيز التعاون العسكري والأمني، وذلك وفقاً لبيان صادر عن وزارة الدفاع الروسية. تزامنت هذه الزيارة مع تصريحات هامة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أكد فيها أن موسكو “تحافظ على علاقات صداقة غير انتهازية مع دمشق”، مما يسلط الضوء على مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين في ظل التحولات السياسية التي تشهدها سوريا.
زيارة الوفد العسكري من التنسيق الميداني إلى الشراكة الاستراتيجية شمل برنامج الوفد السوري زيارة “الحديقة العسكرية الوطنية المركزية للقوات المسلحة الروسية”، حيث اطلع على أحدث ما أنتجته الصناعة الدفاعية الروسية من تقنيات متطورة. وشمل العروض تقديم منظومات الدفاع الجوي، والطائرات المسيرة الاستطلاعية والقتالية، بالإضافة إلى المعدات العسكرية الثقيلة. ويشير التحليل العسكري إلى أن التركيز على أنظمة الدفاع الجوي يحمل دلالات خاصة، إذ تسعى سوريا إلى سد الثغرات التي تستغلها الطائرات الإسرائيلية في غاراتها.
هذه الزيارة تأتي ضمن سلسلة من اللقاءات الثنائية المستمرة خلال العام 2025، حيث سبق أن زار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة موسكو في نهاية يوليو الماضي، وعقدا سلسلة من اللقاءات والمباحثات المكثفة مع مسؤولين وقادة روس، تركزت حول قضايا مشتركة، على رأسها مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا. وتأتي زيارة النعسان قبل أيام فقط من الزيارة المرتقبة للرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى موسكو للمشاركة في أعمال القمة الروسية العربية الأولى المقرر انعقادها في 15 أكتوبر الجاري.
في إطار دبلوماسي لعلاقة متطورة، قدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رؤية موسكو للعلاقات مع دمشق في هذه المرحلة الانتقالية. ووصف لافروف العلاقات بين البلدين بأنها “علاقات صداقة غير انتهازية”، مؤكداً أن موسكو لذلك استأنفت الاتصالات مع دمشق. هذا الوصف يحمل دلالات عميقة، خاصة في ظل التحولات الإقليمية والدولية، ويدل على أن روسيا تسعى للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة، مع الاعتراف بالوضع الجديد.كما أكد لافروف في تصريحاته أن الخطوات التي اتخذتها سوريا وأعلن عنها الرئيس أحمد الشرع ستساعدها على تجاوز الأزمة التي تمر بها. هذا التصريح يعكس تأييداً روسياً للقيادة السورية الجديدة ومسارها الانتقالي، ويظهر أن موسكو تحاول التكيف مع المتغيرات السياسية في سوريا مع الحفاظ على وجودها ومصالحها.سياق التحولات الإقليمية والدولية
تجري هذه التطورات في وقت تشهد فيه سوريا تحولات سياسية كبيرة، بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، منهياً 61 عاماً من حكم نظام البعث، بينها 53 سنة من حكم أسرة الأسد. في هذا السياق، شهدت الساحة الدولية حركة دبلوماسية نشطة، حيث عقدت في يناير 2025 “اجتماعات الرياض بشأن سوريا” بحضور ممثلي الدول العربية والدولية، ناقشت سبل تحقيق الاستقرار في سوريا ودعم مسارها الانتقالي.
ومن أبرز مخرجات تلك الاجتماعات الدعوة إلى رفع العقوبات الدولية عن سوريا، كما عبرت العديد من الدول عن استعدادها لدعم عملية إعادة الإعمار. هذا الانفتاح الدولي على سوريا الجديدة يضع العلاقات السورية-الروسية في إطار تنافسي، حيث لم تعد روسيا الطرف الدولي الوحيد الذي يمكن لدمشق التعاون معه، مما يمنح السوريين هامشاً أكبر للمناورة في سياساتهم الخارجية.
تحول في طبيعة العلاقة من التبعية إلى الشراكة المتوازنة تشير التحليلات إلى أن طبيعة العلاقة بين دمشق وموسكو تشهد تحولاً جوهرياً. فبعد أن اتسمت العلاقة في المرحلة السابقة بهيمنة روسية كاملة على القرار السوري، تسعى سوريا الجديدة لتحقيق توازن في علاقاتها الخارجية، بعيداً عن التبعية المطلقة لأي طرف. ويوضح الخبير في الشؤون العسكرية، العقيد مصطفى فرحات، أن “سوريا تطالب روسيا بتقديم اعتذار للشعب السوري عن الأخطاء السابقة، مع فتح صفحة جديدة تقوم على التعاون بين الدولتين على أساس الندية”.
هذا التحول يظهر جلياً في تعدد الزيارات والمباحثات، حيث تسعى سوريا إلى إعادة هيكلة العلاقات مع روسيا على أسس جديدة تحترم السيادة السورية، مع الحفاظ على المصالح المشتركة. ويضيف فرحات أن “القيادة السورية تحاول بناء علاقات متوازنة مع الشرق والغرب، بهدف ‘تصفير الأعداء’ وتعزيز مصالحها الوطنية”.
مستقبل العلاقات السورية-الروسية نحو شراكة متعددة الأبعاد تشير التطورات الأخيرة إلى أن مستقبل العلاقات بين البلدين سيتخذ طابعاً أكثر تعقيداً وتعدداً في الأبعاد
البعد العسكري من المرجح أن يتركز التعاون العسكري على الأسلحة الدفاعية، خاصة أنظمة الدفاع الجوي، مع احتمال تزويد سوريا بطائرات مسيرة متطورة لتعزيز قدراتها.
كذالك البعد الاقتصادي ستظل روسيا مهتمة بالاستثمار في قطاعات النفط والغاز والفوسفات في سوريا، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي كبوابة لإفريقيا. و البعد الإقليمي ستواصل روسيا استخدام وجودها في سوريا كنقطة ارتكاز للتأثير في الشؤون الإقليمية، خاصة في ظل المنافسة مع القوى الدولية الأخرى. شراكة في مفترق طرق الزيارة الأخيرة للوفد العسكري السوري إلى موسكو، تصريحات لافروف، تظهر أن العلاقات بين البلدين تدخل مرحلة جديدة من الشراكة. هذه المرحلة تتسم بمزيد من التوازن، حيث تسعى سوريا الجديدة إلى تنويع علاقاتها الدولية وعدم الاعتماد على طرف واحد، بينما تحاول روسيا الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة.
في النهاية، يبقى نجاح هذه العلاقة مرهوناً بقدرة الطرفين على معالجة التحديات الحالية، والوصول إلى صيغة تعاون جديدة تحترم سيادة سوريا واستقلالها، وتلبي تطلعات شعبها في الاستقرار وإعادة الإعمار، وفي الوقت نفسه تحفظ المصالح الروسية المشروعة. كما أن قدرة القيادة السورية على تحقيق توازن استراتيجي في علاقاتها الدولية ستكون عاملاً حاسماً في تحديد شكل ومستقبل العلاقة مع موسكو في السنوات القادمة.