
في ثالث زيارة إلى الرياض، يشارك الرئيس السوري في مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” ويلتقي محمد بن سلمان، ويعلن أنه اختار الاستثمار لبناء سورية الجديدة بدلاً من المساعدات والمعونات.. ويدعو رؤساء الشركات العالمية لاستثمار أموالهم في سورية…
مسار العلاقات الاقتصادية والسياسية بين سورية والمملكة العربية السعودية، الذي يرسمه بشكل متسارع الرئيس السوري أحمد الشرع وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بملامح جديدة ووفق رؤية واقعية تنظر إلى المستقبل عبر التكامل والتعاون المشترك ومع دول المنطقة، بما يتماشى مع التوجه العالمي بالانفتاح على سورية بعد قطيعة وحصار وعزلة وحرب لم تشهد مثيلاً لها أي دولة أخرى…
رسائل اقتصادية بالدرجة الأولى تتعلق بالاستثمار في سورية والتنمية وإعادة الإعمار، حملها الرئيس السوري إلى مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار الدولي” الذي انعقد في الرياض بمشاركة مسؤولين وممثلين عن كبريات الشركات العالمية. وقد أعرب الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد السعودية، عن سعادته بهذا الحضور الكبير بالرئيس الشرع، وبإظهار السعودية كشريك للتنمية والاستثمار وجسراً يربط العالم بسورية الجديدة…
ومع أن هذه المشاركة السورية في مؤتمر مستقبل الاستثمار ترافقت مع حوادث أمنية خطيرة في عدد من المحافظات السورية كحمص والسويداء وشرق الفرات، بهدف التشويش على الزيارة، حيث تعرضت حافلة ركاب لعمل إرهابي على طريق دمشق – السويداء خلال تواجد الشرع في السعودية، ذلك لأن الارتباط بين الأمن والاستثمار هو ارتباط ثيق، والمستثمرون يهمهم بالدرجة الأولى وجود بيئة استثمارية آمنة.
وقد حرص الرئيس الشرع في كل لقاءاته على طمأنة رؤساء الشركات العالمية، وأكد خلال لقاءاته المتنوعة مع المسؤولين السعوديين وخلال جلسات المؤتمر وفي جلسته الختامية، التي كانت سورية الحاضر الأكبر فيها.. وكان موضوع الأمن والاستقرار والبيئة الاستثمارية في سورية والرغبة في الانفتاح على العالم، جوهر الرسالة التي وجهها الشرع إلى المشاركين وبينهم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي حول السعودية إلى جسر يربط الشرق بالغرب ومنصة للحوارات الكبرى، فمؤتمر مستقبل الاستثمار يعد أكبر مؤتمر للاستثمار في العالم. وبلغت الصفقات التي عقدت خلاله على مدار ثلاثة أيام 250 مليار دولار.
وشكلت المشاركة السورية الواسعة بوفد كبير برئاسة الرئيس الشرع ووزراء الخارجية والاقتصاد والمالية، والاجتماعات المتعددة التي تم عقدها، ومنها الاجتماع الثلاثي الذي ضم الشرع ومحمد بن سلمان ورئيس كوسوفو، وتم خلاله تبادل الاعتراف الدبلوماسي بين سورية وكوسوفو، وشكلت هذه الاجتماعات واللقاءات في توقيت بالغ الأهمية، حيث تتحول لغة الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية إلى لغة سياسية جديدة بين دول العالم، وتغدو المصالح الاقتصادية هي الأساس في العلاقات بين الدول، وتغدو التنمية الاقتصادية والاستثمارات والتنمية بدل المدافع والرصاص في محاربة التطرف والإرهاب والفتن، هي الطريق الأقصر لتنمية المجتمعات والوصول إلى الاستقرار وتحقيق الأمن والانفتاح…
وخلال جلسة حوارية استثنائية ضمن أعمال مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار 2025” في العاصمة السعودية الرياض، بحضور صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان آل سعود، وجه الرئيس الشرع العديد من الرسائل إلى المشاركين وعبرهم إلى العالم، مؤكداً أن سورية اختارت إعادة الإعمار من خلال الاستثمار بعيداً عن المساعدات والمعونات، مع العلم أن السعودية تدخل في سوق الاستثمارات السورية في قطاعات مختلفة كالتعليم والسياحة والتربية والصحة والطاقة والذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي. واعتبر الشرع أن العالم يكسب من الاستقرار والتنمية في سورية لأنها بوابة الشرق وطريق الحرير، وهي بوابة المملكة العربية السعودية باتجاه تركيا وأوروبا، في إشارة إلى الموقع الجغرافي الهام لسورية في قلب العالم. كما أشار إلى أن قانون الاستثمار في سورية من أفضل القوانين لأنه يمنح تسهيلات كبيرة للمستثمرين ويوفر بيئة استثمارية مناسبة. وأكد الرئيس السوري على الفرص الكبيرة في مجال العقارات، مؤكداً أن العقارات بسبب عدم الاستثمار أسعارها عالية كاليابان.
واستعرض الرئيس الشرع خلال الجلسة رؤية سوريا لمرحلة التعافي الاقتصادي، والفرص الواسعة المتاحة للاستثمار، ولا سيّما في مجال إعادة الإعمار، مؤكداً انفتاح سوريا على الشراكات الدولية ودعوتها المستثمرين العالميين للمساهمة في مسيرة التنمية، في ضوء التعديلات الأخيرة على قانون الاستثمار بما يحقق التوازن بين مصلحة المستثمر والدولة السورية.
الرئيس أحمد الشرع أشار إلى دخول استثمارات إلى سورية بما يعادل 28 مليار دولار خلال الأشهر الماضية، وإن الحكومة السورية تعمل على حماية المستثمرين وفقاً للقوانين، ولديهم اليوم فرصة تاريخية وكبيرة في سوريا. وأكد أنه منذ 40 سنة لم يحصل تطور في البناء، حيث سعر العقار فيها ينافس طوكيو بسبب كثرة الطلب وقلة المعروض…
اليد السعودية تمتد إلى سورية اقتصادياً وذلك لمداواة الجراح السورية المثخنة، حيث تؤدي هذه الوقفة السعودية الأخوية إلى جانب الشعب السوري إلى تعزيز السلم الأهلي وإلى ضبط الأمن وتسريع القضاء على الإرهاب وإعطاء زخم لإعادة النازحين واستعادة الوحدة ونبذ الفتنة والتطرف… لأن هذا يتعارض مع الاستثمار والتنمية…
بالرغم من التحديات الكبيرة وبخاصة التحدي الأمني، فقد حققت زيارة الشرع للسعودية، وهي الثالثة له خلال هذا العام، نتائج سياسية واقتصادية، وباتت العلاقات السورية السعودية قوية ومتنوعة شملت معظم مجالات الحياة، وتقف السعودية إلى جانب حكومة الشرع. وكانت الرياض وراء كل التطورات الإيجابية، وبخاصة رفع العقوبات الأمريكية عن سورية والانفتاح العربي والدولي عليها بعد عزلة وحصار خانقين، حيث بدأ البناء والإعمار وتوقف الهدم والفوضى. وتبرعت السعودية وقطر بدفع رواتب الموظفين في القطاع العام في سورية طيلة الأشهر الماضية، وهي مستمرة في تقديم الدعم لحكومة الشرع لحين وصولها إلى بر الأمان وتحقيق الوحدة والاستقرار والسلم الأهلي، حيث تستطيع السعودية القيام بهذا الدور ولا يستطيع أي بلد آخر منافستها أو القيام به، بالنظر إلى العلاقات التاريخية التي تربط بين الرياض ودمشق، ووجود إرادة سياسية جامعة لدى قيادة البلدين بدفع هذه العلاقات حتى تصل إلى أعلى مرتبة من العلو والتعاون. ذلك أن رجال الأعمال السعوديين يدركون أهمية سورية ودورها ومكانتها السياسية والتاريخية، ويعرفون أيضاً أن سورية تغوص في بحر من الثروات والإمكانات التي تحتاج إلى من يبحث عنها ويستغلها في المجالات المختلفة، وبخاصة في مجال الزراعة والإنتاج الصناعي والطاقة والتعليم والصحة والتربية والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي.
الرئيس الشرع قام بجولة إلى الأسواق في الرياض، كما التقى بعدد كبير من المسؤولين السعوديين والمستثمرين ورؤساء الشركات الكبرى، وكان من بينها الاجتماع بحضور وزيري الخارجية والاقتصاد السوريين أسعد الشيباني ونضال الشعار، مع رئيسي مجلس إدارة البنك السعودي الفرنسي (BSF) مازن الرميح، ومصرف الإنماء عبد الملك الحفيش، جرى خلاله استعراض سبل تعزيز التعاون المالي والمصرفي بين البلدين، بما يسهم في دعم المشاريع الاستثمارية والتنموية في سوريا.
كما بحث الشرع، بحضور وزراء الخارجية والاقتصاد والمالية السوريين، مع رئيس مجلس الأعمال السعودي–السوري محمد أبو نيان، سبل تعزيز الشراكات الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين، ولا سيّما في مجالات البنية التحتية والطاقة وإعادة الإعمار.
كما التقى الرئيس الشرع في الرياض مع وزير الاتصالات وتقنية المعلومات السعودي عبد الله السواحة، بحضور وزير الخارجية والمغتربين أسعد حسن الشيباني، ووزير الاتصالات وتقانة المعلومات عبد السلام هيكل….
تزامنت زيارة الشرع إلى الرياض مع الوفد السوري الكبير مع مرور ذكرى ميلاده في التاسع والعشرين من تشرين الأول. ووسط تصفيق الحضور، بينهم ولي العهد السعودي، قال الشرع إنه ولد في السعودية في العام 1982، وإنه قضى عمره في خدمة الشعب السوري، وأنه سيستمر حتى تصل سورية إلى بر الأمان..
ثلاث زيارات للرئيس السوري إلى الرياض هذا العام 2025 تختصر الكلام، وتعبر كل زيارة عن نفسها. ففي الزيارة الأولى، كانت الرياض عرابة انتخاب الرئيس الشرع على المستوى السياسي العربي عندما زارها في أول زيارة خارجية له في الثاني من شباط من العام الحالي.
وفي الزيارة الثانية، كان الأمير محمد بن سلمان يحضر مفاجأة من العيار الثقيل، حين جمع في الرياض بين الرئيس الشرع والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعلن بدوره رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية، وذلك في أيار الماضي، وفتح بهذا اللقاء الباب على مصراعيه لعودة سورية بعد عزلة طويلة إلى العالم.
ولم ينس الرئيس التنفيذي للمبادرة ريتشارد أتياس الإشارة إلى أهمية مشاركة سورية، وقال إن هذه الدورة، التي تُعقد تحت شعار “مفتاح الازدهار”، ستكون استثنائية من حيث الحضور، إذ يشارك فيها قادة أكثر من 20 دولة، من بينهم رؤساء سوريا والأردن والعراق وباكستان وموريتانيا وبنغلاديش وكوبا، إلى جانب نائب الرئيس الصيني، كما يُتوقع أن تستقطب المبادرة نحو 8000 مشارك، بينهم 40 وزيراً و600 متحدث يمثلون حكومات وشركات كبرى وصناديق استثمارية عالمية.
وقال أتياس: “سنشهد نهضة سوريا، والسعودية ستلعب دوراً محورياً في هذا التحول”، مشيراً إلى أن المبادرة باتت منصة للمستثمرين الباحثين عن شراكات حقيقية وفرص ذات أثر ملموس، بعيداً عن الاكتفاء بتوقيع مذكرات التفاهم…..
وتُعد هذه المشاركة الأولى لسوريا في هذا الحدث العالمي، الذي يُصنّف كأحد أبرز المنصات الدولية للابتكار والاستثمار والتعاون متعدد الأطراف، وتأتي في وقت يسعى فيه الاقتصاد السوري إلى التعافي من آثار الحرب والعقوبات، وسط حاجة ملحة إلى فرص استثمارية جديدة تعزز النمو وتوفر فرص عمل، ما يجعل من هذه المشاركة إعلاناً رسمياً عن انخراط سوريا في النهضة الاقتصادية الإقليمية.
كما تضيف مشاركة سورية وزيارة الرئيس الشرع الثالثة هذا العام إلى الرياض زخماً جديداً إلى مسار العلاقات السورية السعودية المتنامية، وفرصة جديدة للتعاون والنمو والازدهار، بعد أن هيأت السعودية لسورية ورئيسها ووفدها الحكومي منبراً اقتصادياً عالمياً عبر مؤتمر مستقبل الاستثمار، بمشاركة عشرات الدول وعدد كبير من رؤساء الشركات العالمية، لبحث قضايا يشترك العالم في الاهتمام بها، منها الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي والطاقة والسياحة والزراعة، عدا عن كون الزيارة بمثابة تثبيت جديد وتأكيد على إصرار السعودية على مد يد العون لسورية حتى تصل إلى بر الأمان والتنمية، ذلك أن الأمن والاستقرار في سورية ضروري لأمن واستقرار المنطقة والعالم..

