
روسيا تضرب موعداً مع النصر قبل حلول الشتاء. وتدعو إلى استئناف المفاوضات في إسطنبول…. والجيش الروسي يحاصر بوكروفسك من الجهات الأربع
عود على بدء… كما لو أن الحرب في الدونباس في يومها الأول بالنسبة لروسيا..، وكما لو أنها في يومها الأخير بالنسبة لأوكرانيا…. في موجة عاتية من الموجات الروسية التي يشهد لها العالم، هبت رياح القوات الجوفضائية الروسية وكنست معها ما تبقى من قوات أوكرانية متهالكة وعاجزة في الدونباس، وهو الإقليم الذي أمسى وأصبح إقليماً روسياً بعد أن انهارت من أمام الجيش الروسي ومن أمام جيش المسيرات الروسي كل المواقع والجسور والتحصينات والمدن والجدران والحواجز التي كان نظام كييف والناتو يظنون أنها تمنع التقدم الروسي..
لم تعد التصريحات والإعلانات عن استعداد روسيا للمفاوضات تكفي للوصول إلى أسماع المجتمعين في قمة مجموعة السبع في كندا، فإذا بجيش المسيرات الروسية وفرق المشاة والمدفعية تدك الحصون في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجية، وتصل إلى العاصمة الأوكرانية كييف وإلى طرق الإمداد ومخازن الأسلحة الأوروبية، لتصل إلى كل من يهمه الأمر وتطرق أسماعهم في قمة السبع بأن الوقت حان لإيقاف القتال والعودة إلى طاولة المفاوضات.
… رسالة روسية حاسمة في البر والجو وعلى جميع الجبهات… فقد استعادت القوات الروسية على الأرض المبادرة على جبهات الشرق والجنوب، خصوصاً في دونيتسك وزابوروجيا، وسط صعوبات متزايدة تواجهها القوات الأوكرانية في تأمين الذخائر وقطع الغيار…
ومع أن روسيا أبدت مرونة بعد قمة ألاسكا بين بوتين وترامب فيما يتعلق بالمفاوضات مع نظام كييف، وأعلنت أنها مستعدة لوقف إطلاق النار والتنازل عن بعض الأراضي عن خط الجبهة في زاباروجيا وخيرسون والانسحاب من سومي ومن خاركوف مقابل انسحاب القوات الأوكرانية من مقاطعة دونيتسك مقابل إعطاء ضمانات أمنية لأوكرانيا.. وهذا ما تم التوافق عليه خلال جولة المفاوضات التي استضافتها إسطنبول في يوليو تموز الماضي، قبل أن تعرقل أوروبا كل شيء وتمنع أوكرانيا من الانسحاب من دونيتسك ولوغانسك وترفض الاعتراف بسيادة روسيا عليهما، مع أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أقر بالوقائع وبسيادة روسيا على المناطق التي أنجزت تحريرها، ومن المتوقع أن يتم مناقشة الشروط الروسية في الجولة القادمة التي وافقت كل من موسكو وكييف على عقدها في إسطنبول، وهي الجولة السادسة المباشرة منذ اندلاع الحرب في العام 2022.
ويبدو أن الخيارات بدأت تضيق أمام زيلينسكي ومن يدعمه في بريطانيا وفرنسا وألمانيا عموماً، وفي معظم دول الناتو على وجه الخصوص… فقد أصبح الوضع العسكري محرجاً بعد أن تمكنت القوات الروسية من إحكام الحصار من جميع الجهات على أكثر من عشرة آلاف جندي أوكراني في بوكروفسك وكوبيانسك، وبدأوا يستجيبون للدعوات الروسية بالاستسلام..
وهذه التطورات الميدانية الهامة على جبهات القتال في إقليم الدونباس، وإعلان موسكو عن إحباط محاولة إرهابية كانت تعدها الاستخبارات الأوكرانية لاغتيال شخصية روسية كبيرة، بالإضافة إلى استهداف خطوط الإمداد ومهاجمة مخازن الأسلحة والمواقع العسكرية في العاصمة كييف. كل هذه التطورات الميدانية تزامنت مع انعقاد قمة مجموعة السبع في كندا، والتي هيمنت عليها كالعادة منذ أربع سنوات الحرب في أوكرانيا، كما ترافقت مع إعلان روسيا عن اختبارات لأسلحة وصواريخ جديدة وعن تشكيل جيش المسيرات، وهو الجيش الذي أصبح يشكل كابوساً حقيقياً لنظام كييف ولدول الناتو على حد سواء…
هي تطورات عسكرية متسارعة لم تشهدها الحرب في أوكرانيا منذ اندلاعها قبل أربع سنوات، جاءت متزامنة مع الدعوات التي أطلقتها موسكو لعقد جولة جديدة من المفاوضات بين موسكو وكييف في إسطنبول، بعد أن حالت التدخلات والعراقيل الغربية دون التوصل إلى وقف لإطلاق النار في تموز الماضي، حين اجتمع الوفدان في إسطنبول ثم بعد ذلك رفض زيلينسكي دعوة الرئيس بوتين لزيارة موسكو بعد قمة ألاسكا. غير أن الوضع العسكري وحصار بوكروفسك والانهيارات في صفوف القوات الأوكرانية بعد موجات من عمليات القصف الروسية المكثفة على جميع الجبهات والمحاور، ودخول جيش المسيرات الروسية والحرب السيبرانية بقوة وقطع طرق إمداد القوات الأوكرانية ومحاصرة عشرات الآلاف من هذه القوات التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الاستسلام، وبعد أن أصبح الجيش الروسي يفرض إيقاعه وسيطرته على الأجواء وعلى الأرض، ما يعني أن الخيارات بدأت تضيق أمام نظام كييف وأصبح لزاماً عليه القبول بالوقائع والعودة إلى المفاوضات أو الهزيمة أمام التقدم الروسي…..
وبالتوازي مع الانتصارات التي يحققها الجيش الروسي على جميع الجبهات، فقد كثفت موسكو اتصالاتها وأعلنت استعدادها للحوار والمفاوضات في إسطنبول وفق المبادئ والتحولات التي طرأت على الأرض في ضوء مخرجات قمة ألاسكا وتراجع الدعم اللوجستي الأميركي بعد إعادة إدارة الرئيس دونالد ترامب النظر في برامج المساعدات، مقابل تعزيز العقوبات الاقتصادية على موسكو، وفرض عقوبات جديدة على شخصيات روسية وعلى قطاع الطاقة وأسطول الشحن الروسي لمنع روسيا من تصدير نفطها وخنق مواردها. غير أن العقوبات الغربية لم تؤتِ أكلها بسبب علاقات موسكو القوية مع الهند والصين وإيران وتركيا، عدا عن الخلافات داخل دول الاتحاد الأوروبي حول الجدوى من هذه العقوبات التي تضر بالاتحاد نفسه أكثر من روسيا..
أيام قاسية ومريرة تعيشها القوات الأوكرانية منذ بداية تشرين الثاني، وهي تعاني من العجز والضعف في كل الميادين وعلى جميع المحاور والجبهات، وتتعرض لخسائر فادحة وسط انهيارات وحصار محكم لفرق عسكرية أوكرانية كاملة، عدا عن فضائح الفساد التي تلاحق الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وهذه الفضائح تضاف إلى الهزائم التي تتعرض لها القوات الأوكرانية التي تجد نفسها اليوم أمام حقائق ربما تدفع نظام زيلينسكي إلى المزيد من التنازلات وربما إلى الاستسلام في نهاية المطاف……
ومع أن أوكرانيا هي التي تدفع ثمن هذه الحرب، إلا أن أوروبا تتحمل مسؤولية استمرارها، وهي التي عرقلت كل المحاولات لوقف إطلاق النار، وبخاصة الأمريكية التي قامت بها إدارة ترامب ولا تزال، حيث تعمدت أوروبا تغذية الرهاب ضد روسيا ونشر الروسوفوبيا التي راحت تجتاح أوروبا بالكذب والتضليل وعبر الترويج أن روسيا تريد غزو أوروبا بعد أوكرانيا، وعبر شيطنة روسيا وتغذية الخوف والرهاب منها وتجاهل كامل لدورها في محاربة النازية والإرهاب الدولي..
وفي هذا الإطار، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن أوروبا تتأهب لحرب كبرى ضد روسيا، ودعا الولايات المتحدة لعدم اتخاذ خطوات من شأنها تصعيد النزاع في أوكرانيا.
واعتبر لافروف، في مقابلة، أن أوروبا “تخرب كل جهود صنع السلام، وترفض الاتصالات المباشرة مع موسكو. هم يفرضون عقوبات جديدة ترتد على اقتصاداتهم بشكل أكبر، ويتأهبون علانية لحرب أوروبية كبرى جديدة ضد روسيا”.
وأشار إلى أن موسكو مستعدة لاستئناف الاتصالات مع أوروبا “عندما ينتهي جنون الرهاب من روسيا”.
وأكد الوزير الروسي إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب دعا دوماً إلى الحوار مع روسيا، وسعى إلى فهم الموقف الروسي حيال أوكرانيا بشكل كامل، و”أظهر التزاماً بإيجاد حل سلمي مستدام”.
وفيما أعلن الكرملين بلسان المتحدث باسمه ديميتري بيسكوف استعداد موسكو للحوار والمفاوضات وفق مبادئ إسطنبول التي تم التوصل إليها في تموز الماضي، فقد حذر أمين مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو من برلين وباريس من أنهما تعملان على وضع خطط عملية جنونية لإعلان الحرب على روسيا، مشدداً على أن “موسكو تأخذ التصريحات والخطط العدوانية للدول الأوروبية على محمل الجد”.
ويبدو أن الوضع بين روسيا وأوروبا يتجه نحو المزيد من التوتر مع بداية الشتاء، حيث تتسابق الدول الأوروبية بشكل يومي على إغلاق مطاراتها والإعلان عن وجود طائرات مسيرة تزعم أنها روسية في أجوائها..
ومع أن هذه الاتهامات الغربية لروسيا يمكن وضعها في خانة محاولات التغطية على العجز والهزائم التي تلحق بقوات زيلينسكي التي تتقهقر أمام الجيش الروسي، بخاصة على محور بوكروفسك الاستراتيجي في مقاطعة دونيتسك، حيث باتت القوات الروسية تحاصر أكثر من عشرة آلاف جندي أوكراني في بوكروفسك وكوبيانسك وتدعوها إلى الاستسلام.
ومع تواصل العمليات العسكرية الروسية المكثفة والناجحة، وتصاعد حالة الرهاب الغربي، وفضائح الفساد التي تحيط بنظام كييف المتهم بنهب وسرقة الأموال الأمريكية والأوروبية، وهذا ما دفع الرئيس ترامب إلى التراجع عن دعم زيلينسكي، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تداعيات سياسية وعسكرية، خاصة وأن موسكو أعلنت بالتزامن مع انتصاراتها الميدانية استعدادها لاستئناف المفاوضات مع أوكرانيا، ونقلت وكالة “تاس” عن مسؤول في الخارجية الروسية أن موسكو مستعدة لاستئناف مفاوضات السلام مع أوكرانيا في إسطنبول التركية، مؤكداً أن “الكرة في ملعب كييف”.. وعلى المقلب الآخر، اعترف القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية أولكسندر سيرسكي أن القوات الروسية تكثف هجماتها على محور بوكروفسك في مقاطعة دونيتسك شرقي أوكرانيا، وكثفت تحركاتها في منطقة زابوروجيا “مستغلة الضباب الكثيف”.
وأضاف سيرسكي أن الوضع تدهور في محوري ألكسندريفكا وغولياي بوليه، حيث تمكنت القوات الروسية من السيطرة على 3 بلدات، وقال إن الوضع أصبح أسوأ بكثير في منطقة زابوروجيا، مع اقتراب الحرب من نهاية عامها الرابع….
الهجوم الروسي الواسع على طول الجبهات في أوكرانيا يشير إلى أن روسيا حسمت أمرها، وأيقنت أنه لا بد أمام التعنت الغربي من الحسم العسكري، ولا بد من العمل بسرعة إلى إلحاق الهزيمة بأوكرانيا قبل حلول الشتاء، وهي اليوم في ظل التململ داخل الاتحاد الأوروبي وتراجع الدعم الغربي، أصبحت أقرب إلى تحقيق أهداف العملية الروسية الخاصة في الدونباس التي أطلقها الرئيس بوتين قبل أربع سنوات لإعادة الإقليم إلى الوطن الأم روسيا.
ولا شك أن الانتصارات التي أحرزتها القوات الجوفضائية الروسية وجيش المسيرات الروسي خلال الأيام والأسابيع الماضية، ما وضع قوات كييف ونظام زيلينسكي ودول الاتحاد الأوروبي والناتو أمام خيار صعب، فأما القبول بالأمر الواقع والعودة إلى المفاوضات وفق الشروط الروسية، أو التعرض لهزيمة عسكرية تاريخية أشبه بالهزيمة التي لحقت بالنازية في الحرب العالمية الثانية، وربما يجد الرئيس زيلينسكي نفسه مجبراً على العودة إلى طاولة المفاوضات في إسطنبول وإلى قبول زيارة موسكو للقاء الرئيس بوتين صاغراً هذه المرة. لأن موسكو لم تخض الحرب في أوكرانيا لتحرير الدونباس فحسب، ذلك لأن موسكو ربما كان هدفها تحرير الدونباس ومنع تمدد الناتو شرقاً وتقييد أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى الناتو، ولكن روسيا اليوم تجد نفسها أمام تحديات كبيرة وجديدة، ولا بد من إثبات وجودها، وهي تخوض الحرب منذ قرابة أربع سنوات من أجل ترسيخ القانون الدولي، واستعادة التوازن العالمي، وتأكيد مكانة ودور روسيا في صياغة النظام الدولي الجديد… وكما قال الرئيس بوتين: “ما الفائدة من العالم بدون روسيا”….

