يعدّ فيديو التمرد الأول من نوعه كونه يعلن الولاء التام لنتنياهو، ويصبّ في مصلحته السياسية، ويدعو إلى تمرد عسكري واضح وصريح ضد أي جهة تخالف وجهة نظره السياسية في اليوم التالي لحرب غزة.
نشر جندي إسرائيلي فيديو يدعو فيه إلى التمرد على وزير الحرب الإسرائيلي يؤاف غالانت واستخدام السلاح ضد أي قرار له علاقة باليوم التالي للحرب في غزة، ما لم يكن هذا القرار صادراً من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يدين صاحب الفيديو له بالولاء المطلق، رغم أن فيديو التمرد أثار حالة من الخوف والارتباك انعكست على طبيعة ردود الفعل المختلفة، بناء على تموضعها في خريطة المشهد السياسي الإسرائيلي.
قد لا يكون هذا الفيديو أولى الإشارات على أن هناك حالة غضب وسخط داخل “الجيش” ضد المستوى السياسي الحكومي، فقد تكلم قائد فرقة 98 “دان غولدفوس” في خطاب علني “أن القادة السياسيين يجب أن يكونوا جديرين بالتضحيات التي أظهرها الجنود”، ورغم اعتبار كثير من المحللين الإسرائيليين أن كلام غولدفوس عبارة عن “صرخة محارب” كما وصفها الكاتب الإسرائيلي آريه شابيت في مقال له في صحيفة “مكور ريشون”، ولكنه في تحليله لخطاب غولدفوس حذّر شابيت قائلاً إن “من لا يريد لنا أن نقع في تمرد عسكري كارثي، أو تمرد مدني مدمر خلال الحرب الوجودية، عليه أن يتحمّل المسؤولية ويغيّر الاتجاه”، قاصداً بكلامه نتنياهو وحكومته.
الحديث عن مئة ألف جندي من الاحتياط يحملون السلاح، سيرفضون الخضوع للأوامر العسكرية ويهددون وزير الحرب يؤاف غالانت ويطالبونه بالولاء لنتنياهو أو الاستقالة، ناهيك بأن فيديو التمرد تم تصويره من جانب جندي احتياط إسرائيلي، وبسلاحه وزيّه العسكري الرسمي وفي ميدان القتال وقت الحرب، ومن خلفه شعارات سياسية حزبية تخص مجموعات يمينية متطرفة.
هذا التمرد داخل إسرائيل لن يمر مرور الكرام، والأبعد من ذلك أن سيؤثر على سياسة الاحتلال تجاه سوريا، لأن الانقسام قد يجبر الجيش الإسرائيلي على التخلي عن مصالحه في سوريا والتركيز على حل مشاكله الداخلية، والتي لن تنتهي قريبًا.
هذا الشيء الذي يمكن ان تستغله المقاومة الفلسطينية بل والجيش السوري لغرس آخر مسمار في نعش دولة الاحتلال.
وبالعودة إلى الموضوع، لا يمكن إغفال دعوات جنود الاحتياط إلى رفض الخدمة العسكرية في فترة أزمة الثورة القضائية كنوع من الاحتجاج على محاولات نتنياهو وحلفائه من الصهيونية الدينية تغيير صبغة “إسرائيل” كـ”دولة يهودية ديمقراطية” إلى “دولة” دينية يهودية.
لمز رئيس المعارضة يائير لابيد إلى رابط بين مكتب نتنياهو وصاحب فيديو التمرد، الذي ينتمي إلى حزب الليكود، كما كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية.
لذلك، يعدّ فيديو التمرد رسالة من نتنياهو مفادها أنه لن يسلم للتظاهرات الداخلية والضغوط الخارجية، وأنه مستعد لتدمير “الجيش”، العمود الفقري للمشروع الصهيوني، في سبيل بقائه السياسي، حتى ولو كان الثمن حرباً أهلية يهودية- يهودية وتدمير “جيش الشعب”، كما وصفه بن غوريون وتحويله إلى مليشيات متحاربة منقسمة سياسياً على بعضها البعض، ناهيك بتدمير أهم المرتكزات الأساسية للمشروع الصهيوني وهو النظام السياسي الإسرائيلي، الإطار الإداري والسياسي الذي تدار به التناقضات اليهودية- اليهودية المتعددة.
لطالما حاول القادة الصهاينة الحفاظ على ذلك النظام السياسي، وإبعاد “الجيش” عن الخلافات السياسية اليهودية الداخلية، لذلك أكدت وثيقة “الجيش” لعام 2015م أن رئيس الأركان هو القائد العام لـ”الجيش” الإسرائيلي، وليس لأي شخصية سياسية أخرى أن تتدخل بـ”الجيش” إلا من خلال رئيس الأركان، وأن وزير الحرب هو شخصية سياسية تمثل حلقة وصل بين الحكومة و”الجيش ممثلاً برئيس الأركان، تأكيداً لهدف سعى له بن غوريون منذ البدايات، ودفع ثمنه دماء يهودية في حادثة سفينة “التلينا” لكي لا يكون داخل “إسرائيل” أي قوة عسكرية حزبية أو سياسية خارج “الدولة”، كما نص قانون “الجيش” الإسرائيلي بعد 12 يوماً من قيام “إسرائيل” عام 1948.
ما سبق يدفعنا إلى الوقوف على توقيت نشر فيديو دعوة التمرد طويلاً، ففي الوقت الذي تتزايد الضغوط الداخلية والخارجية على نتنياهو لوقف الحرب، وتقديم خطة شاملة لليوم التالي للحرب، بعيداً من الحكم العسكري لغزة، ويواجه على المستوى الخارجي قرار محكمة العدل الدولية بوقف العملية العسكرية في مدينة رفح، واعتراف كل من النرويج وإسبانيا وأيرلندا بالدولة الفلسطينية، ومطالبة المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق كل من نتنياهو ووزير الحرب يؤاف غالانت بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية في غزة، ومن الداخل هناك احتجاج يؤاف غالانت سواء في كابينت الحرب أو في اجتماع كتلة الليكود واتهامه نتنياهو بعدم قدرته على وضع استراتيجية لليوم التالي بعد الحرب، الأمر الذي أثر سلباً على أداء “الجيش” في الحرب، وسماح عوائل الأسرى الإسرائيليين نشر فيديو يوثق اللحظات الأولى لأسر المجندات الإسرائيليات القائمات بعمليات المراقبة الإلكترونية على حدود غزة، وتهديد الجنرال نيتسان آلون المكلف بملف التفاوض لاستعادة الأسرى الإسرائيليين من قِبل “الجيش” بالاستقالة بعد تسريبه أن نتنياهو هو من وقف عدة مرات في وجه إتمام صفقة تبادل تعيد الأسرى الإسرائيليين أحياء.
وفي مقدمة تلك الضغوط يأتي رفض نتنياهو وحكومته المخطط الأميركي لإعادة تموضع “إسرائيل” في المنطقة والحفاظ على أمنها ضمن صفقة التطبيع السعودي الذي يعيد رسم خريطة الحلف الأميركي في الشرق الأوسط، والذي تعدّه إدارة الرئيس جو بايدن الانتصار الاستراتيجي الحقيقي لها ولـ “إسرائيل” في حرب غزة.
ومن الجدير بالإشارة، ربط فيديو التمرد بالإعلان الإسرائيلي عن استئناف التفاوض على صفقة تبادل وهدنة، في محاولة كما صرّح أحد المطلعين على عملية التفاوض “أن ذلك مجرد تصريحات كلامية لتهدئة الشارع الإسرائيلي، من دون إحداث أي تغييرات فعلية في المواقف“.
بمعنى أن نتنياهو يدرك أن الشارع الإسرائيلي قادم إلى مزيد من التوتر والتظاهر ضده وضد حكومته، وستتكاثف كل الجهات لإسقاط نتنياهو وحكومته، وخاصة في حال خروج كل من بني غانتس وغادي آيزنكوت، أعضاء كابينت الحرب، من حكومة الطوارئ في ضوء فشل نتنياهو في إدارة الحرب استراتيجياً وغياب رؤية واضحة لليوم التالي للحرب، الأمر الذي يجعل من نتنياهو المسؤول عن وصول “الجيش” الإسرائيلي إلى درجة مقاتلة طواحين الهواء في غزة، والمراوحة في الأهداف التكتيكية من دون تحقيق أهدافه الاستراتيجية، وهنا يأتي فيديو التمرد كإشارة إلى أن نتنياهو ليس لديه خطوط حمر في مواجهة خصومه المتربصين به.
من الجدير بالإشارة، أن صاحب فيديو التمرد اختار غالانت عنواناً للتمرد، وهنا تبرز الأهداف السياسية الحزبية والسياسية الخفية من وراء الفيديو، إذ يعدّ غالانت بنظر نتنياهو حصان طروادة ليس داخل الحكومة فحسب بل داخل حزب الليكود ومعسكر اليمين عامة، وخاصة مع انفتاح غالانت على الأميركيين ومحاولاته المتكررة أن يجعل من نفسه شخصية جادة، مسؤولة ومستقلة عن نتنياهو.
ولعلنا نتذكر أن مواقف غالانت المعارضة لنتنياهو في فترة الثورة القضائية وكيف تراجع نتنياهو عن إقالته بعد الحراك الشعبي العفوي الحاشد ضد تلك الإقالة في ما سمّي بـ”ليلة غالن” في شهر نيسان/أبريل عام 2023م. والأهم حالياً موقف غالانت بعدم موافقته على طرح قانون التجنيد للحريديم من دون موافقة بني غانتس، الأمر الذي يهدد بإسقاط حكومة نتنياهو برمتها، لذلك استهداف غالانت يخدم تدميره كشخصية يمينية ذات خلفية عسكرية من الممكن أن تكون وريثة مناسبة وجيدة لنتنياهو