من الواضح أن لا أحد بكامل قواه العقلية، سواء كان إسرائيلياً أو أميركياً، يمكنه أن يصدق أن مواصلة اللجوء إلى القوة ستعالج السبب الذي يشعل العداء لـ “إسرائيل” أو العداء لأميركا في أنحاء العالم الإسلامي.
بعدما ظلت القوة العسكرية الأميركية تتبع خطوات “إسرائيل” لعقد من الزمان، نجحت في النهاية في تكرار خبرة “الجيش” الإسرائيلي. بقيت لحظات المجد، لكن سيثبت بالفعل أنها لحظات عابرة؛ فبعد أحداث سبتمبر 2001، انطلقت جهود واشنطن لتحويل (أو “تحرير”) الشرق الأوسط “الكبير” إلى أقصاها.
في أفغانستان والعراق، شنَّ جورج بوش الابن حرباً عالمية على الإرهاب بما أثار الإعجاب، فيما أخذت القوات الأميركية تعمل بسرعة وحماسة كانتا يوماً علامة تجارية مسجلة للجيش الإسرائيلي! وبفضل استراتيجية “الصدمة والترويع”، سقطت كابول، وتبعتها بغداد بعد أقل من عام ونصف عام. وكما شرح أحد كبار جنرالات الجيش للكونغرس في 2004، فقد وجد البنتاغون حلاً شاملاً للحرب:
“نحن الآن قادرون على تحقيق التفوق في اتخاذ القرار الذي تتيحه المنظومات المتشابكة، فأجهزة الاستشعار وقدرات الحكم الجديدة تنتج وعياً غير مسبوق بالموقف مقارباً للوقت الحقيقي، وزيادة توافر المعلومات، والقدرة على تصويب الذخيرة الدقيقة في عمق، واتساع ساحة المعركة… كل هذه القدرات للقوة المستقبلية المتشابكة سوف تزيد هيمنة المعلومات والسرعة والدقة، وستثمر تفوقاً في اتخاذ القرار“.
كانت العبارة الرئيسة في كل هذه الرطانة التقنية هي تلك التي تكرر ذكرها مرتين: “التفوق في اتخاذ القرار”. في تلك اللحظة، كان ضباط الجيش الأميركي، كما إدارة بوش، لا يزالون مقتنعين بأنهم يعرفون كيفية تحقيق الفوز.
هذه الادعاءات في النجاح ثبت أنها سابقة لأوانها، فالحملات العسكرية التي أعلن أنها ستنتهي خلال أسابيع استمرت وطالت لسنوات وأصبحت حرب أفغانستان أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، فيما تواجه القوات الأميركية الانتفاضات الموجهة ضدها. وعندما وصل الأمر إلى تحقيق القرارات المعلقة بالفعل، ظل البنتاغون (كالجيش الإسرائيلي) حائراً تماماً.
عسكرة بلا فوز!
إذا ما كان هناك أي استنتاج شامل لحربي أفغانستان والعراق (وحروب “إسرائيل”)، فسيكون: النصر وهم. والتعويل على استسلام عدو اليوم في وجه القوى المتفوقة هو كشراء تذاكر اليانصيب لدفع قروض مستحقة السداد، يحتاج إلى الكثير جداً من الحظ ليتحقق.
في الوقت نفسه، بينما يدخل الاقتصاد الأميركي حيز الاضطراب والفوضى، يستغرق الأميركيون في التفكير في ما لديهم من مشكلة تعادل مشكلة “القنبلة الديمغرافية” في إسرائيل، ألا وهي “القنبلة المالية” في حالة أميركا، فعادات التبذير المتأصلة -فردياً وجمعياً- تزيد من احتمال الركود طويل الأجل: لا نمو، لا وظائف، لا متعة للحياة. كما يؤدي الإنفاق المنفلت إلى تفاقم هذا التهديد.
بحلول عام 2007، يئس الضباط الأميركيون أنفسهم من تحقيق النصر، برغم أنهم لم يتخلوا عن الحرب. وتغيرت الأولويات في العراق أولاً، ثم في أفغانستان، فوضع كبار الجنرالات توقعاتهم للنصر على الرف -على الأقل- كما يفهم رابين أو شوارتزكوف تعبير “نصر”، وسعوا لئلا يُهزموا. وفي المواقع القيادية في واشنطن، كما في الجيش الأميركي، برز تجنب الهزيمة الصريحة باعتباره معياراً جديداً للنجاح.
ونتيجة لذلك، كانت القوات الأميركية تشنّ هجماتها من معسكرات قواعدها العسكرية، ليس لهزيمة العدو، بل “لحماية الناس”، بما يتفق مع أحدث المعتقدات، في حين يبرم القادة العسكريون الأميركيون -بينما يحتسون الشاي- صفقات مع أمراء الحرب وزعماء القبائل، آملين إقناع المسلحين بإلقاء أسلحتهم.
وهكذا، ترسخت قناعة جديدة يؤيدها الجميع من ديفيد بترايوس، القائد الأميركي للحرب في أفغانستان، وهو الضابط الأكثر شهرة في هذا العصر الأميركي، إلى باراك أوباما، القائد الأعلى الحاصل على جائزة نوبل للسلام. بالنسبة إلى النزاعات التي تجد الولايات المتحدة نفسها واقعة في شراكها، لا يوجد أي “حلول عسكرية”، كما أكد بترايوس نفسه، “لا يمكننا أن نتخذ من القتل وسيلتنا للإفلات” من ورطتنا. بهذه الطريقة أيضاً، يكون قد قدم تأبيناً للمفهوم الغربي للحرب بالقرنين الماضيين.
لكن لماذا لم يطرح أحد هذا السؤال: ما هي إذاً العواقب المترتبة على حلول نهاية التاريخ العسكري الغربي؟
في مقالته الشهيرة “نهاية التاريخ”، حذّر فرانسيس فوكوياما من التفكير في أن نهاية التاريخ الأيديولوجي تبشر بحلول السلام والوئام العالمي، فقد تنبأ بأن يظل لدى الشعوب والدول الكثير للتنازع حوله.
بنهاية التاريخ العسكري، ينطبق تنبؤ مماثل. سيستمر العنف ذو الدوافع السياسية، وربما سيحتفظ بمنفعته الحدية (الهامشية) في حالات محددة. ومع ذلك، فقد انتهت إلى الأبد احتمالات نجاح الحروب الكبيرة في حل المشكلات الكبرى.
بالتأكيد، لا أحد بكامل قواه العقلية، إسرائيلياً أو أميركياً، يمكنه أن يصدق أن مواصلة اللجوء إلى القوة ستعالج السبب الذي يشعل العداء لـ “إسرائيل” أو العداء لأميركا في أنحاء العالم الإسلامي، أياً كان. كما أن التوقع بأن الاستمرار في اللجوء إلى القوة قد يفضي إلى شيء مختلف أو شيء أفضل هو محض هراء.
يبقى أن نرى ما إذا كانت “إسرائيل” والولايات المتحدة يمكن أن تتصالحا مع (حقائق) نهاية التاريخ العسكري.
لقد فعلت دول أخرى هذا منذ وقت طويل، فتأقلمت مع الإيقاعات المتغيرة للسياسة الدولية. ولكونهم فعلوا ذلك، فهذا دليل، لا على الفضيلة، بل على الدهاء.
أظهرت الصين مثلاً القليل من الحماسة حيال نزع سلاحها، لكن بينما توسع بكين نطاق عملها ونفوذها، نجدها تركز على التجارة والاستثمار ودعم النمو. وفي الوقت نفسه، يلزم جيش تحرير الشعب (الجيش الصيني) بلاده. لقد سرقت الصين صفحة من كتاب أميركي قديم لقواعد اللعب، إذ أصبحت أبرز الممارسين لـ”دبلوماسية الدولار“.
يضع انهيار التقاليد العسكرية الغربية “إسرائيل” بمواجهة خيارات محدودة لا يبدو أي منها جذاباً. وبالنظر إلى تاريخ اليهودية وتاريخ “إسرائيل” نفسها، نجد أن نفور يهود “إسرائيل” من أن يعهدوا بأمنهم وسلامتهم إلى نيات جيرانهم الحسنة أو اعتبارات المجتمع الدولي أمر مفهوم. ففي بضعة عقود فقط، أنتج المشروع الصهيوني دولة مزدهرة ونابضة بالحياة.
لماذا يعرضون كل هذا للخطر؟ ورغم أن “القنبلة الديمغرافية” قد تكون موقوتة، لا يعرف أحد حقاً كم تبقى لـ”إسرائيل” من الوقت. وإذا كان الإسرائيليون يميلون إلى الثقة بالأسلحة الإسرائيلية (التي تزودهم بها أميركا)، ويأملون في الوقت نفسه تحسن الأمور، فالمتوقع أن يستمروا في التمسك بتاريخ ونمط عسكري منقضي الصلاحية.
نظرياً، لا بدّ من أن تكون للولايات المتحدة حرية أكبر في العمل، فليس لديها القيود الجغرافية أو الديمغرافية الموجودة في “إسرائيل”، ولأنها أكثر ثراء بكثير، لكن للأسف، لواشنطن مصالح ثابتة في الحفاظ على الوضع القائم، بغض النظر عن التكاليف الناتجة منه أو إلى أين يؤدي.
في ما يتعلق بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، هناك عقود لا بد من توقيعها وأكوام من المال ينبغي كسبها. أما الذين يعيشون على حالة الأمن القومي، فلديهم صلاحيات ومصالح يحمونها. أما المسؤولون المنتخبون، فلديهم متبرعون لحملاتهم الانتخابية ينبغي إرضاؤهم.
وبالنسبة إلى الموظفين المعينين تعييناً، مدنيين وعسكريين، فهناك طموحات عليهم السعي لتحقيقها.
ودائماً، هناك ثرثرة جوقة المستأجَرين من دعاة “العسكرة”، الداعين إلى “الصراع”، الذين يصرون على بذل أقصى ما بوسعهم، فيما يبقون متأهبين لانتقاد أي إشارة تراجع.
في واشنطن، نجد معسكر “العسكرة” هذا يضم -وليس مصادفة في أي حال- العديد من الأصوات التي تدافع بإصرار عن “البلطجة” الإسرائيلية، وتتعاون ضمنياً لاستبعاد أو تهميش وجهات نظر يرونها هرطقة.
نتيجة لذلك، فإن ما ينتج من النقاش حول مسائل الأمن القومي يُعد زائفاً. وهكذا، نحن مدعوون إلى الاعتقاد، مثلاً، بأن تعيين الجنرال بترايوس قائداً للقوات الأميركية في أفغانستان (بعد العراق) يشكل علامة بارزة على الطريق إلى النجاح النهائي.
منذ ثلاثة عقود، كانت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت تطرح سؤالها بإلحاح: “ما الفائدة من وجود هذا الجيش الرائع الذي تتحدثون عنه دائماً إذا كنا لا نستطيع استخدامه؟”. ولاحقاً، طرح أندرو باسيفيتش سؤالاً مختلفاً تماماً يستحق الاهتمام: ما الفائدة من الاستخدام المستمر للقوات العسكرية الرائعة إذا ما كان ذلك في الواقع لا يحقق نجاحاً؟
نكوص واشنطن عن طرح السؤال يتيح الفرصة لتغلغل قدر من الفساد وخيانة الأمانة في حياة أميركا السياسية.