الانقسام السياسي الإسرائيلي لا يتمحور حول جدوى الحرب أو شرعيتها، وإنما يتمحور حول الآليات التي من الممكن أن ترمم الردع وأن تحقق ما عجز “الجيش” وحكومة نتنياهو عن تحقيقه.
لم يعد الحديث عن ضرورة البحث في ترتيبات اليوم التالي للحرب أمراً مرتبطاً بحسم ميداني أو بتحقيق الأهداف التي أعلنها نتنياهو في بداية الحرب على غزة تحت عنوان الرد على “طوفان الأقصى”، إذ إن القراءة المتعمّقة لتصريحات الجنرالات العسكريين الإسرائيليين السابقين والكثير من المحللين الصهاينة كيسرائيل زيف الذي قال إن “الجيش” الإسرائيلي والقيادة الأمنية يشعران باستنفاد الغرض من الحرب قد التقت مع ما صرّح به كبير المتحدثين باسم “الجيش” الإسرائيلي دانييل هاجاري، من أن القضاء على حماس أو جعلها تختفي مجرد فكرة مضللة للجمهور، لناحية ضرورة وقف الحرب بشكلها الحالي والبحث عن آلية أخرى يمكن من خلالها تحقيق نتائج ملموسة في مواجهة التحديات الحالية.
وإذا كان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قد رهن إمكانية توقف الحرب بتحقيق هدفين أساسيين، أي القضاء على حماس كقوة قادرة على حكم غزة وصولاً إلى اجتثاثها وإطلاق سراح الأسرى، فإن نحو تسعة أشهر من العدوان المتواصل على القطاع فشل في تحقيق هذه الأهداف ودفع إلى تعميق الخلاف بين المستويين السياسي والعسكري، وقد جاء تصريح بنيامين نتنياهو الأخير لقناة 13 التلفزيونية من أن “إسرائيل دولة لها جيش وليس جيشاً له دولة” بالإضافة إلى ادعاء زوجته بأن في “الجيش” من يخطط للانقلاب عليه ليقدم دليلاً على المسار الذي بات يحكم آلية التعاون والتنسيق.
في هذا الإطار، يمكن ملاحظة مدى الجهد الذي يبذله نتنياهو إعلامياً من أجل تأكيد صوابية خياراته باعتبارها المسار الوحيد الذي سيمكن الكيان من العيش بسلام، بل أكثر من ذلك، هو يرى أنه في حربه ضد أعدائه إنما يحارب نيابة عن الإنسانية المتنورة ضد البربرية.
أما بالنسبة إلى السردية التي اعتمدها نتنياهو لتبرير عدوانه على غزة لناحية اعتبار عدوانه على القطاع حرباً مصيرية ستؤثر في مستقبل الكيان ووجوده، بالإضافة إلى إصراره على عدم ربط إطلاق سراح الأسرى بوقف الحرب، فقد استند أساسها النظري إلى ما يمكن اعتباره انقلاباً على ما سوّق له من خلال وثيقة ” المفهوم الأمني لعام 2030″ التي قدمها للكابينت عام 2018 والتي كانت تتلخص في إمكانية التنازل عن الحسم وتنفيذ الردع من خلال أربعة عناصر قوة هي الأمنية والاقتصادية والسياسية والروحانية، أي بما يعدّ عودة إلى الأسس التي نظّر لها في كتابه “مكان بين الأمم”. فبعد أن عدّ المواجهات التي يخوضها إنجازاً سياسياً لا يلزم بحسم العدو، يمكن ملاءمة الواقع برد محدود، عاد لينقلب بشدة على فكرة أن اندماج الكيان في محيطه والبحث عن حلول وسطية أو توافقية قد تكفي من دون ضمان التفوق والردع.
وعليه، وانطلاقاً من الافتراض الذي يسود في أوساط الكيان حول أن الحياة السياسية لنتنياهو باتت على مشارف نهايتها، مع الإشارة إلى أن هذا الافتراض كان سابقاً لأحداث “طوفان الأقصى”، حاول استغلال الواقع الحالي لتكريس ظروف جديدة تخفف من تأثير ضغوط الوسط واليسار عليه من جهة، وتعرقل الوصول إلى صفقة قد تنهي الحرب وتمهد لانتخابات يُشكل على إثرها حكومة بديلة قد تؤدي إلى إنهاء حكمه من جهة أخرى. وعليه، حاول نتنياهو أن يوازن بين استمراره في إرسال الوفود للتفاوض مع الحؤول دون وصولهم إلى اتفاق من جهة، واستمرار العمليات العسكرية رغم يقينه بعقم هذا الخيار، إذ إنها لم تحقق أياً من الأهداف طيلة الأشهر التسعة الماضية، من جهة أخرى.
في هذا الإطار، يمكن الملاحظة أن المعركة الحقيقية التي يخوضها نتنياهو ليست في قطاع غزة أو على جبهات الإسناد وإنما في مكان آخر أي في مواجهة خصومه السياسيين.
فمن خلال ما بات يشكل قناعة لدى كل من المستويين السياسي والعسكري في الكيان لناحية عدم إمكانية الحسم في الميدان ودخول “الجيش” الإسرائيلي في دوامة مفرغة عنوانها الاستنزاف وتآكل الردع وتَشكّل قناعة تامة بعدم إمكانية القضاء على حماس التي تعدّ فكرة وعقيدة قبل اعتبارها مقاومة، وعدم إمكانية إطلاق سراح الأسرى بالقوة، إذ إن الكيان قد دخل تقريباً إلى كل مدن القطاع ومناطقه من دون تحقيق أي نتيجة تُذكر، يمكن التقدير أن الهدف الأساسي والوحيد الممكن تحقيقه يرتبط فقط بحسابات رئيس الحكومة الضيقة، والتي تتمحور حول كيفية تأخير موعد سقوطه.
في هذا السياق، يمكن التقدير أن المعارضة الإسرائيلية بالإضافة إلى القيادة العسكرية قد تنبهت لهذا الواقع، إذ إنهما تصوّبان على الأضرار التي سيسببها إصرار نتنياهو على استكمال معركته.
فالتصريح الذي أدلى به هاجاري بالإضافة إلى ما أعلنه يائير لابيد حول أن نتنياهو خطير على أمن الدولة وليس مؤهلاً ليكون رئيس حكومة من دون أن ننسى تصريحات غانتس وأيزنكوت اللذين انسحبا من الحكومة بسبب ادعائهما عدم وجود إستراتيجية لفترة ما بعد الحرب على غزة، أي ما يمكن تفسيره بعبثية الحرب الحالية وافتقادها إلى الرؤى والأهداف، لا يمكن أن تترجم إلا بمحاولة تركيزهم على ابتعاد نتنياهو في تقديراته عن المصلحة العليا للكيان ومحاولته التستر على أنانيته السياسية واعتباراته الخاصة من خلال ادعائه خوض معركة مقدسة للدفاع عن الإنسانية والحضارة في وجه الوحشية والبربرية.
بطبيعة الحال، وانطلاقاً من عدم اهتمام محور المقاومة بسقوط نتنياهو من عدمه، إذ لا فرق بين إسرائيلي وآخر، وإذ يتمحور تركيز المقاومة في غزة وجبهات الإسناد الممتدة من البحر الأحمر إلى جنوب لبنان مروراً بالعراق وسوريا حول كيفية إلحاق هزيمة إستراتيجية بالكيان، من دون الالتفات إلى ما يمكن أن يسببه سقوط نتنياهو من إمكانية وقف العدوان على غزة، يمكن التقدير أن قراءة المحور للانقسام العميق بين الأطياف السياسية والعسكرية داخل الكيان تفترض عدم التوافق بين أطيافه على آليات المواجهة وبالتالي المساهمة في عدم قدرتهم على احتواء الهزيمة. فلو كان المحور يقبل بمقاربة الواقع الداخلي الإسرائيلي وفق تفضيل طرف على آخر بما يعني الافتراض جدلاً أن تقدم المعارضة سيترجم وقفاً للعدوان على القطاع، لكان تجاوب مع المسار الذي يدّعي الأميركي العمل على إنجازه.
وعليه، يمكن التقدير أن التجاذبات الحاصلة بين نتنياهو وحكومته من جهة، والمعارضة من جهة أخرى لن تساهم في تخفيف آثار سقوط الكيان وهزيمته. فالانقسام السياسي الإسرائيلي لا يتمحور حول جدوى الحرب أو شرعيتها، وإنما يتمحور حول الآليات التي من الممكن أن ترمم الردع وأن تحقق ما عجز “الجيش” وحكومة نتنياهو عن تحقيقه طيلة تسعة أشهر.
تركيا ليست بالبعيدة عن كل هذه المشاكل، فسواء أعلنت “قسد” إلغاء الانتخابات بعد تأجيلها إلى شهر آب/أغسطس المقبل، أو أقدمت على إجرائها بالفعل، فإنّ الواقع في الشرق السوري لن يكون هادئاً أبداً في المرحلة المقبلة.
في عام 2017، وبينما كانت المنطقة تشهد صراعات مريرة على امتداد مساحتَي سوريا والعراق، وكان تنظيم “داعش” الإرهابيّ، بإسنادٍ مؤكَّد من جيش الاحتلال الأميركيّ، يعيث فساداً وقتلاً وتدميراً في المدن والبلدات والقرى في البلدين على جانبي الحدود، قررت إدارة إقليم “كردستان” العراق، إجراء استفتاء شعبيّ على الاستقلال، في عموم المناطق التي تحكمها في شماليّ العراق.
ولم تكن الولايات المتحدة الأميركية بعيدة أبداً عن هذا القرار، الذي أدى إلى استنفار حكومات العراق والبلدان المجاورة، وكاد يتسبّب بحربٍ جديدة تأهَّب لها الجميع في حينه. وقبل موعد الاستفتاء المفترض، في أيلول/سبتمبر منذ ذلك العام، لم يبق ثمّة داعم واحد لهذا القرار، سوى الكيان الصهيونيّ، الذي أعلن دعمه الصريح له، بحيث إنّ واشنطن ذاتها بدأت إطلاق التحذيرات من خطورة خطوة كهذه، الأمر الذي دفع إدارة الإقليم إلى إلغاء الاستفتاء بعد أشهرٍ من إصرارها عليه.
في عام 2024، أعلنت “الإدارة الذاتية” في الشرق السوريّ عزمها إجراء انتخابات محليّة في المناطق التي تسيطر عليها، بدعم ورعاية من الولايات المتحدة الأميركية وقواتها العسكرية التي تحتل أجزاء غالية من الشرق السوريّ. وحدّدت موعد 11 حزيران/يوليو الجاريّ، موعداً لإجرائها، على أنْ تشمل هذه العملية مناطق “مقاطعتي الفرات والرقة”، ومنبج وعفرين والشهباء في ريف حلب، والمدن والبلدات في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، وعموم مدن وبلدات محافظة الحسكة وقراها. وبطبيعة الحال، لم يكن هذا القرار، بدوره، بعيداً عن المشيئة الأميركية وخططها التقسيمية للمنطقة.
سريعاً، أعلنت كل حكومات الإقليم المعنيّة، وفي طليعتها الشرعيّة السورية في دمشق، رفضها هذا الإجراء وتحذيرها منه. كذلك فعلت موسكو وطهران، بينما لوّحت أنقرة بإمكان العودة إلى الخيار العسكريّ ضد “قسد”، التي تُشكّل سلطة أمر واقع في الشرق السوريّ.
المقالة تعبر عن رأي الكاتب فقط