بدأت أولى ثمار ونتائج معركة “طوفان الأقصى” وما تلاها بالانعكاس على سوريا بشكل إيجابي، فتوافقت القوى الإقليمية والدولية المتناقضة على البدء بإيجاد المخرج الأساسي عبر تحقيق المصالحة السورية-التركية.
لفت الأنظار تسارع الأحداث في إدلب إلى درجة الصدام بين الجيش التركي والجماعات المسلحة التي احتوتها تركيا ودعمتها على مدى أكثر من اثني عشر عاماً من بدء الحرب المركبة في سوريا. واللافت للنظر هو الدينامية التي تتحرك بها الحكومة التركية لتنفيذ ما يمكن أن نسمّيه توافقاً دولياً وإقليمياً على إخراج سوريا من كارثتها عبر المصالحة بين البلدين، فأي معنى لهذه الدينامية المتسارعة وما آفاقها في المستقبل القريب؟
لا شك أن السعي لإنهاء الكارثة السورية لم يبدأ الآن، بل مع إجماع دول الجامعة العربية التي تقودها المملكة العربية السعودية وبضوء أخضر أميركي للبدء باحتواء سوريا بمبدأ خطوة مقابل خطوة قبل عامين، وتُوّج ذلك بحضور الرئيس السوري بشار الأسد مؤتمر القمة العربية في جدة عام 2023. لكنّ ذلك لم يؤدِ إلى أي انفراج في الداخل السوري، واستمر ارتفاع مستوى الضغط الاقتصادي على سوريي الداخل بما يؤشر بشكل واضح على استمرار الانهيار الاقتصادي وبعده الاجتماعي نحو قعر الهاوية.
كان الحدث الأهم في تاريخ الصراع مع “إسرائيل” من قبل نشوئها وحتى الآن، أي معركة “طوفان الأقصى” وما تلاها، هو فقدان هذه “الدولة” سلاحها الأهم في بقائها واستمرارها وهو سلاح الردع، الذي يزداد تهشماً مع كل يوم تستمر فيه المعارك في غزة والضفة الغربية والحدود الفلسطينية -اللبنانية بما يؤكد العجز الإسرائيلي عن إمكانية ترميم سلاح الردع، رغم دعم النظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة إلى حدّ دفع بوزير الخارجية الأميركي بلينكن إلى إبلاغ المرسل الأميركي آموس هوكستين أن “إسرائيل” فقدت سيادتها على شمال البلاد بسبب هجمات حزب الله اللبناني، وفقاً لما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز“.
أدركت الإدارة الأميركية العميقة من اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى” ضرورة أن لا تحدث حرب إقليمية لا يمكن أن تتحمّل تداعياتها، وهي ترمق بعينيها ارتفاع مستوى تحديات الصين لها في كل المجالات، مترافقة مع مؤشرات كبيرة لهزيمة واسعة لها في أوكرانيا على يد روسيا التي استطاعت إنهاك الجيش الأوكراني مع سيطرة واسعة على الأراضي الأوكرانية، وهذا يقتضي أن لا تبادر قوى المقاومة إلى توسيع معاركها باتجاه حرب، وهنا تلاقت مصالح الولايات المتحدة وقوى المقاومة من منطلقين مختلفين كلياً، فهذه القوى مع كل يوم من المعارك تراكم المزيد من أرباحها وأوراقها وهو ما لا يدفعها إلى الحرب ما دامت تربح بالنقاط مع أقل مستوى من التدمير في البنى التحتية، وترافق الأمر مع امتناع دمشق عن فتح جبهتها الجنوبية لاعتبارات تخصها كدولة مع تسهيل استمرار تدفق السلاح إلى جنوب لبنان والضفة الغربية بما يشكل صمام أمان لها وورقة ضغط في مفاوضاتها متعددة الأوجه.
تحوّل الموقف الأميركي من ممانع للحل في سوريا إلى قبول الحل مقابل عدم الانجرار إلى الحرب الإقليمية التي لا يريدها سوى الإسرائيليين.
ومن هنا، بدأت أولى ثمار ونتائج معركة “طوفان الأقصى” وما تلاها بالانعكاس على سوريا بشكل إيجابي، فتوافقت القوى الإقليمية والدولية المتناقضة على البدء بإيجاد المخرج الأساسي عبر تحقيق المصالحة السورية-التركية، فتوافقت كل من روسيا والصين وتركيا وإيران والسعودية والإمارات على جملة مبادئ في ما يتعلق بالمسألة السورية، وأهمها عودة سيادة دمشق على كامل أراضيها وفرض سيطرتها عليها.
كانت هناك أربع مسائل دفعت بتركيا إلى التخلي عن مكتسبات احتلالها الشمال السوري، فقد تحوّل اللاجئون السوريون إلى مكسر عصا بين القوى السياسية المتعارضة في تركيا، وعادت إلى مشكلة انتخابية بعد خسارة حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات البلدية، وارتفاع مؤشرات حزب “الشعب الجمهوري” وحزب “الرفاه الجديد” وبقاء مؤشرات حزب “الشعوب للمساواة والديمقراطية” على حالها، وهؤلاء اللاجئون لا ملجأ لهم سوى العودة إلى بلدهم.
والثانية هي مشكلة إدلب وريف حلب الشمالي وهي بالأساس مشكلة دولية قبل أن تكون محلية، فطبيعة الجماعات المسلحة المنضبطة بالتوجهات التركية والحماية الأميركية تشكل تهديداً للداخل التركي، وفقاً لتجارب سابقة في أكثر من منطقة في العالم، فهي بعد تضخمها ستنقلب على مهيئيها تحقيقاً لأسطورة “وحش فرانكشتاين” الذي قتل صاحبه الذي أحياه.
والثالثة هو ما تعدّه تهديداً لأمنها القومي من جرّاء تشكل كيانية سياسية لحزب “العمال” الكردستاني بوجهه السوري في شمال شرق سوريا على الحدود المتاخمة للكثافة السكانية الكردية في جنوب شرق تركيا، وأن استمرار هذه الكيانية وتطورها ستنتقل تأثيراتها إلى الامتداد الطبيعي للكرد بما يهدد وحدة الأراضي التركية، بالرغم من عدم قيام الحزب بأي عمليات عسكرية داخل تركيا، بل على العكس، هم من يتعرض لضربات متلاحقة بالطيران المسيّر والاغتيالات وحرمانهم من البنى التحتية.
والرابعة تتعلق بالوضع الاقتصادي التركي الذي يشهد المزيد من التراجع مع المزيد من الضغوط على الأتراك، فديون تركيا تجاوزت 460 مليار $ وخدمة هذا الدين السنوية وصلت إلى 60 مليار $ وفقاً لبعض الإحصائيات الاقتصادية، وقد يكون مؤشر زيادة أسعار الطاقة الكهربائية بنسبة 38 % دليلاً على تقلص موارد البنك المركزي، ما يشكل مزيداً من الضغوط الاقتصادية المؤثرة في القاعدة الانتخابية، وتركيا تحتاج بشدة إلى فتح الطريق البري من معبرَي باب الهوى وإعزاز باتجاه الحدود الأردنية ودول الخليج، إذ وصل عدد الشاحنات التركية التي عبرت إلى دول الخليج عام 2010 إلى 150 ألف شاحنة.
أمام هذه المسائل الأربع تبرز أهمية المصالحة السورية-التركية بالنسبة إلى دول الخليج، وخاصةً أن المملكة العربية السعودية والإمارات لا تستطيعان تحمّل بقاء الجماعات المسلحة في إدلب المهددة لمناطق عبور الشاحنات، عدا عن تهديدها المستقبلي للبلدين من جراء بقاء ظاهرة التطرف، والأمر يقتضي إعادة سيطرة دمشق على شمال غرب سوريا ويقابله شرط تركي أيضاً بإعادة مناطق شمال شرق سوريا إلى سلطة دمشق أيضاً، والواضح أن شَرطي البلدين قد تحققا بقبول تركيا وتلاقيا مع السعي الروسي-الإيراني لتحقيق المصالحة بين البلدين.
وهنا، يبرز السؤال الذي يفرض نفسه كيف يمكن للاجئين السوريين أن يعودوا إلى سوريا بغياب البنية التحتية المؤهلة لاستيعابهم، والأمر يمكن الإجابة عنه بتحليل البنية الاقتصادية للدول المتوافقة على حل المسألة السورية فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تمتلكان القدرة المالية وربما تنضم قطر إليهما لتمويل إعادة الإعمار في مناطق الذين سيعودون قسرياً كما هو واضح، والشركات الصينية وربما الروسية تمتلك القدرة على إعادة تأهيل المناطق بسرعة رهيبة بما يتيح للاجئين العودة خلال عام كأقصى حد.
وتبقى مشكلة الكرد الذين يقودهم حزب “العمال” الكردستاني بوجهه السوري “حزب الاتحاد الديمقراطي السوري” في شرق الفرات، وهم بطبيعة الحال يختلفون جذرياً عن تجربة إدلب وشمال غرب سوريا، فقد استطاعوا أن يؤسسوا مجتمعاً مدنياً كبيراً تجاوز فيه عدد الموظفين 220 ألف موظف من خلال الموارد النفطية والغذائية التي يسيطرون عليها، ولهم امتدادهم الأساسي مع مركز الثقل في تركيا مع حضور أقل في إيران والعراق، عدا عن علاقتهم التاريخية مع دمشق والتي لا يمكن أن تذهب تأثيراتها، بالإضافة إلى غياب المواجهات مع الجيش السوري وحرصهم الشديد على تفادي الصدام، وغياب نزعة التطرف والتكفير لديهم.
هذه المسائل ستترك آثارها على الحل في مناطق سيطرتهم بما يرضي هواجس الأمن القومي التركي، ويبقي علاقاتهم جيدة مع دمشق وفقاً لصيغة سياسية بما يمكنهم من الشراكة في صياغة مستقبل سوريا، وقد يساهم إعلان قطع العلاقة مع قادة الحزب في جبال قنديل في حلحلة مشكلتهم.
الواضح أن سوريا أمام واقع جديد وفقاً لما أفرزته معارك قوى المقاومة بعد معركة “طوفان الأقصى”، وهي أمام تحديات جديدة تتطلب تغييراً جذرياً في كيفية إدارة الدولة السورية خلال السنوات القادمة، بعد أن أثبتت الآليات السابقة المتبعة بأنها ساهمت إلى حد ما في تضخيم الكارثة السورية، وتداعيات اللجوء والدمار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تشكل تهديدات حقيقية لعودة الانفجار من جديد، وهي تتطلب رؤية لتفادي كارثة سورية جديدة تحت مظلة الصراع الدولي والإقليمي الذي يمكن أن يندلع من جديد.