اختتم لقاء الدوحة بمشاركة الولايات المتحدة والوسيطين المصري والقطري، من دون التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وأصدرت الأطراف الثلاثة بياناً أعلن عن تقدّم وتقليص الفجوات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، والاستمرار في التفاوض في القاهرة الأسبوع المقبل، كما أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن بياناً أعلن فيه إحراز تقدّم في محادثات الدوحة، كما صدرت تصريحات مشابهة عن البيت الأبيض تشيع أجواء تفاؤلية، وأعلنت الخارجية الأميركية عن توجّه وزيرها أنتوني بلينكين لزيارة “تل أبيب” والمنطقة الاثنين المقبل بهدف الدفع بالمفاوضات، بينما أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بيبي نتنياهو بياناً حرص فيه على إبراز رفض المقاومة للشروط الإسرائيلية التي يعلمها الوسطاء وطالبهم بإجبار المقاومة على القبول بها، كما صرّحت مصادر من المقاومة أن نتائج لقاء الدوحة لا تتوافق مع الورقة التي وافقت عليها في الثاني من تموز/يوليو الماضي.
يتضح من ردود الفعل وما رشح عن مختلف الأطراف، أنّ الطرف الأميركي حرص على إشاعة أجواء متفائلة بأن الفجوات تتقلّص ويمكن التوصّل إلى اتفاق في جولات التفاوض المقبلة في القاهرة والدوحة من دون تحديد سقف زمني لها، ويبدو أن الطرف الأميركي طرح ورقة جديدة تركّز على نقاط الاتفاق في ملف تبادل الأسرى ولا تتناول قضيتي الانسحاب الإسرائيلي من محوري صلاح الدين “فيلادلفيا” ونيتساريم، وهما شرطا نتنياهو المتعارضان مع إعلان بايدن وقرار مجلس الأمن والورقة التي وافقت عليها المقاومة وطرحها الوسطاء في تموز/يوليو المنصرم.
قبيل انطلاق لقاء الدوحة انحصرت التوقّعات في ثلاثة سيناريوهات، نجاح جزئي أو فشل جزئي أو فشل كامل، ولم يكن سيناريو نجاح الأطراف في التوصّل إلى اتفاق مطروحاً، نظراً لمعرفة موقف نتنياهو المسبق، وإدراك الأطراف كافة بما فيها المؤسسات المهنية الإسرائيلية المشاركة في المفاوضات “الموساد والشاباك والجيش”، أنّ العقبة الوحيدة أمام إبرام اتفاق وقف إطلاق النار هو نتنياهو، بيد أنّ تطوّرات الموقف الإقليمي زادت من الضغوط على نتنياهو للتراجع عن شروطه الجديدة التي تهدف إلى إطالة أمد الحرب، لكنّ نتنياهو الذي يوصف بالخبير والمتمترس في المراوغة، سعى من خلال المشاركة في وفد إسرائيلي رفيع في لقاء الدوحة والادعاء بتوسيع صلاحيات الوفد لإشاعة رغبته في التوصّل إلى اتفاق، بيد أنه لم يتراجع عن سلوكه المفضي لعرقلة التوصل إلى اتفاق وإطالة أمد الحرب حتى لو أدت إلى حرب إقليمية.
منذ قيام “إسرائيل” باغتيال القائدين فؤاد شكر وإسماعيل هنية، وقصف ميناء الحديدة، وإعلان القيادتين الإيرانية واليمنية وقيادة المقاومة اللبنانية عن عزمهم الردّ على العدوان الإسرائيلي، استشعرت الأطراف الدولية خطورة الموقف، ولا سيما الإدارة الأميركية “الديمقراطية” التي تخشى اندلاع حرب إقليمية والانعكاسات على فرص نجاح الحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة، ومع رفع مستوى تهديدات قيادات محور المقاومة، عملت الإدارة الأميركية في ثلاثة مستويات، بهدف منع اتساع الحرب على غزة والحدّ من قوة الردود الإيرانية واللبنانية واليمنية المتوقّعة، المستوى الأول دبلوماسي، عبر نقل رسائل الترغيب والترهيب وإصدار بيانات مشتركة على مستوى دول غربية مختلفة تؤكّد عزمها الدفاع عن “إسرائيل”، والثاني عسكري من خلال نشر قوات عسكرية هجومية ودفاعية بهدف الردع، والثالث تكثيف جهود الوساطة وإشاعة الأمل بقرب الاتفاق على إنهاء الحرب على غزة.
على الرغم من إدراك الأطراف كافة أن هناك شخصاً واحداً هو نتنياهو يتحمّل مسؤولية عرقلة الاتفاق على وقف الحرب ويسعى لإطالة أمدها لأسباب شخصية وحزبية، وعلى الأرجح ستؤدي سياساته إلى توسيع الصراع وربما إلى حرب إقليمية، بيد أنّ الطرف الأميركي والمجتمع الدولي لا يرغب في ممارسة ضغوط حقيقية عليه، بل على العكس تماماً، تُمارَس الضغوط على الوسطاء والدول والكيانات الداعمة للموقف الفلسطيني من جهة، ويُقدّم دعم سياسي وعسكري ومالي غير مسبوق لـ “إسرائيل” من جهة أخرى، وذلك بهدف واحد هو ضمان انتصار الحليف الاستراتيجي لأميركا والغرب “إسرائيل”، الأمر الذي قد يؤدي إلى إشعال الشرق الأوسط بل والمنطقة برمّتها، وحينها فإن الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي سيتحمّلان كامل المسؤولية عن النتائج التي لا يمكن لأحد توقّعها بيد أنها ستعيد رسم خريطة الشرق الأوسط.
كما بات معلوماً، فإن نتنياهو يقاتل في غزة من أجل مستقبله السياسي، وما استمرار رفض كل الحلول لوقف الحرب إلا بسبب خشيته مما سيكون عليه الاشتباك السياسي الداخلي في “إسرائيل” بعد انتهاء الحرب، وخصوصاً مع المطالبات المتزايدة بإنشاء لجنة تحقيق لكشف المسؤوليات عن الإخفاقات في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر، والتي ستطال نتنياهو والقادة الأمنيين.
لا يجد نتنياهو نفسه مستعجلاً لوقف الحرب، ما دام استمرارها يحظى بدعم “المجتمع الإسرائيلي”، إذ لم تخرج المظاهرات العارمة التي تشبه تلك التي خرجت في إبّان رفض التعديلات القضائية، بالإضافة إلى أن استطلاعات الرأي الإسرائيلية تشير إلى ارتفاع نسب التأييد لنتنياهو، بحيث كشف استطلاع، أجرته “معاريف” مؤخراً، أن 50 % من الإسرائيليين يَعُدّون نتنياهو الأفضل لقيادة الحكومة بينما أيّد 49% بني غانتس لتولي الحكومة.
2– استراتيجية خروج “الجيش” الإسرائيلي
لعل من أكبر الإخفاقات الإسرائيلية في الحرب على غزة، هو أن “الجيش” الإسرائيلي، ومعه المستوى السياسي، لم يصادقا على استراتيجية خروج من القتال في غزة، وما هو تعريف النصر، وهل الأهداف الموضوعة قابلة فعلاً للتحقق، أم لا.
عادةً، تحاول الدول المتدخّلة عسكرياً أن تضع “استراتيجية خروج” exit strategy تسمح لها بالخروج من حرب من دون أن يعني خروجها خسارة وهزيمة، وعلى نحو يسمح لها بإنهاء تلك الحرب مع القدرة على ادعاء انتصار، عبر تحقيق معظم الأهداف المعلنة، ومن دون أن تُجبَر على خوض معركة استنزاف طويلة الأمد، تؤدي إلى خسائر كبرى، في المدى الطويل.
غالباً، يأخذ تصميم استراتيجيات الخروج في الحسبان تضارب الضغوط الداخلية والخارجية والميدانية، على النحو التالي:
– عندما تكون الضغوط الخارجية أو الداخلية مقبولة ومتوسطة، تجهد الدولة في إبراز صورة “عدم الخسارة” الميدانية والعسكرية، فتعمد إلى اتباع استراتيجية “الخروج طويل الأمد”، والذي يقوم على اتفاق تفاوضي يسبق الانسحاب، ويؤدي إلى انسحاب عسكري محدود الخسائر المادية والمعنوية.
– عندما تكون الضغوط كبيرة جداً، فمن المرجّح أن تنتهج الدولة استراتيجية خروج سريع، على الرغم من تكاليفها الكبيرة وتبعاتها على سمعتها وهيبتها.
تشعر الولايات المتحدة بعد اختتام مباحثات الدوحة أنها نجحت في “تنفيس” الغضب الإيراني واللبناني واليمني وتأجيله عبر تفعيل مختلف أدواتها الدبلوماسية والعسكرية، وتواصل مساعيها للعمل على عامل الزمن عبر إشاعة أجواء تفاؤلية عن نتائج المفاوضات، من خلال البيانات والتسريبات بالإضافة إلى وضع الطرفين الإيراني واللبناني في صورة المباحثات أولاً بأوّل عبر الوسيطين القطري والمصري، والقيام بالإعلان عن مواعيد مقبلة لاستئناف مباحثات وقف إطلاق النار، الأمر الذي سيترك للإدارة الأميركية مساحة زمنية لممارسة مزيد من الاتصالات لكبح الردود الإيرانية واللبنانية واليمنية، بداعي عدم عرقلة مسار التفاوض، وفي حال تقرّر مهاجمة “إسرائيل” ستحمّل الإدارة الأميركية إيران ولبنان واليمن المسؤولية عن توسيع الصراع وإجهاض فرص التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.