الرئيس بوتين يتحدى مجددا الغرب ويزور منغوليا ويوسع دائرة الفضاء الأوراسي باتجاه إقامة نظام عالمي جديد ويدعو للحوار والسلام ويؤكد أن النصر في الحرب الدائرة مع أوكرانيا أمر حتمي.
بعد زياراته إلى الصين وكوريا الشمالية وأذربيجان، يكمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدائرة بزيارة منغوليا التي تحمل بالنسبة لروسيا رمزية تتعلق بالنصر على الأعداء، كما أنها تضم في جنباتها تمثالا للمارشال السوفييتي الشهير غيورغي جوكوف الذي كانت انتصاراته على الجيش الياباني في منغوليا بداية مسيرة هذا الماريشال الأكثر شهرة في العالم في تاريخ الجيوش والذي قاد روسيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية.
زيارات الرئيس بوتين في ولايته الخامسة تحمل في طياتها طابعا تاريخيا. فالصين العملاق الاقتصادي وروسيا العملاق العسكري يمكنهما معا أن يشكلا قوة ضاربة في الشرق، الأمر الذي يخيف الغرب ويدفع بالولايات المتحدة إلى العمل على الاستفراد بروسيا والصين كل على حدة لوقف خطوات التعاون الاستراتيجي بين القوتين النوويتين والعملاقين الآسيويين.
وتأتي زيارة الرئيس بوتين إلى منغوليا لتؤكد فشل الغرب في محاصرة روسيا عبر العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة في تاريخ الأمم والشعوب، وقد بلغت أكثر من عشرين ألف عقوبة ووصلت إلى حد منع اقتناء أي مادة تمت بصلة إلى روسيا. ولكن الرئيس بوتين لم يأبه لهذه العقوبات واستطاع أن يحولها إلى فرصة من أجل تنمية الصادرات والإنتاج الروسيين وتحويل الضرر إلى الخصوم، حيث تعاني أوروبا من التضخم وارتفاع أسعار الطاقة بعد أن كان الغاز الروسي يؤمن لأوروبا تنمية مستدامة ومتصاعدة بسبب رخصه وسهولة الحصول عليه. إلا أن الحرب في أوكرانيا كانت في الأساس حربا أمريكية هدفها منع أي تقارب بين أوروبا وروسيا. ولا تزال الولايات المتحدة تبتز أوروبا وتشيع أجواء الخوف بين دولها وتنمي الروسوفوبيا في أذهان الأوروبيين لدرجة أن الغرب وبخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أصبحوا يعتبرون روسيا عدوهم الأول كالولايات المتحدة ويخصصون الميزانيات للناتو من أجل الوقوف في وجه روسيا التي كانت دائما تدعو مثل كل بلدان العالم وبخاصة المناهضة لأمريكا إلى تفكيك الناتو لانتفاء الحاجة إليه بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، إلا أن الإدارات الأمريكية لاتزال تنمي مشاعر العداء للروس للحفاظ على الناتو بالدرجة الأولى ولتفكيك أوروبا ومنعها من التقارب مع روسيا لتبقى في الجيب الأمريكي ورقة تستخدمها الولايات المتحدة حيثما شاءت كما يحصل الآن في الحرب الدائرة في أوكرانيا.
استبق الرئيس بوتين زيارته إلى منغوليا وأكد أن الهجوم الإرهابي على كورسك الروسية فشل سياسيا وعسكريا. فمن جهة، لم يتمكن الأوكران والمرتزقة الأوروبيون من الوصول إلى محطة كورسك النووية، الهدف الرئيسي للهجوم. وبعد أقل من شهر على الهجوم الغادر، يحاصر الجيش الروسي القوات الأوكرانية في البلدات والقرى التي دخلتها ويسحقها ويضرب طرق إمدادها. ومن جهة ثانية، لم يضعف الهجوم الإرهابي على كورسك التقدم الروسي في جمهورية دونيتسك. على العكس، حرر الجيش الروسي ثلاث قرى خلال الشهر الماضي في دونيتسك ولا يزال يتقدم وسط انهيارات وخسائر كبيرة في صفوف القوات الأوكرانية.
الرئيس بوتين اعتبر أن أيام الرئيس الأوكراني زيلينسكي أصبحت محسومة، لأن الأوكرانيين لن يجددوا له ولايته. واعتبر أن روسيا مستعدة للمفاوضات مع سلطات كييف بعد أن يتم حسم المعركة الدائرة في كورسك الروسية. وقال الرئيس فلاديمير بوتين بمناسبة زيارته إلى منغوليا لحضور الاحتفالات بعيد النصر على اليابان إن النخب الغربية جعلت أوكرانيا أداة في المعركة مع روسيا، وأكد أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ستستمر حتى تحقيق أمن روسيا ومواطنيها، رغم ما يقدمه الغرب لنظام كييف من أشكال الدعم السياسي والعسكري والمالي.
يتحدى الرئيس بوتين بزيارته إلى منغوليا الغرب وقرار محكمة الجنايات الدولية ويذكر العالم في المقابل أن أول الانتصارات التي حققها الحلفاء كانت على الجيش الياباني في منغوليا بقيادة المارشال الروسي الشهير جوكوف والذي دارت حوله القصص والحكايا والبطولات بشأن ثباته وما كان يتحلى به من صفات قيادية لا مثيل لها. وكأن الرئيس بوتين يريد أن يوجه رسالة للغرب عبر زيارته لمنغوليا يقول فيها: كما كانت روسيا تنتصر دائما عبر التاريخ، فإنها اليوم ستنتصر في أوكرانيا، وكما فشلتم في حصارها ومحاولات خنقها فإنها تفتح الأبواب بابا وراء باب وصولا إلى تحقيق أهدافها وإعلان النصر النهائي. مع أن الجميع بات يدرك كما قال الرئيس بوتين أن “السبب الرئيسي في مأساة أوكرانيا هو السياسة المتعمدة المناهضة لروسيا التي ينتهجها الغرب بقيادة الولايات المتحدة”.
الكرملين أعلن أن الرئيس بوتين سيزور منغوليا بدعوة من الرئيس المنغولي أوخناغين هورالسوخ، لحضور احتفالات الذكرى الخامسة والثمانين لنصر الجيش السوفيتي على اليابان وتحرير منغوليا إبان الحرب العالمية الثانية. كما يلتقي بوتين رئيسي البرلمان والوزراء المنغوليين، ويجري مباحثات تشمل تعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي يتفق في رؤيته دائما مع الرئيس بوتين في نظرته إلى الغرب الذي يريد تدمير روسيا وإضعافها أكد في كلمة أمام طلاب معهد موسكو للعلاقات الدولية أن الغرب حاول منذ القدم تدمير روسيا بسبب قوتها الزائدة واستقلالها.
وأضاف: “التاريخ يعيد نفسه اليوم، حيث حشد الغرب 50 دولة معادية لروسيا تحت راية نظام زيلينسكي النازي”. واعتبر أن رؤية الغرب وتطلعاته للهيمنة وإضعاف روسيا تتعارض مع المسار الموضوعي للتاريخ وأن محاولات الغرب تؤكد احتضاره المحتوم وفشله. وأكد لافروف على أن روسيا والصين يجمعهما الدفاع المشترك عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وأضاف “روسيا باعتبارها قوة عالمية تلعب دورا متوازنا في السياسة الدولية، ولدينا شريك موثوق هو الصين”. ويؤكد الرئيس بوتين والرئيس شي جين بينغ في اللقاءات والاتفاقات المشتركة أن الجانبين يسعيان لتحقيق الاستقرار على الساحة الدولية. لن نندمج في إطار القواعد الغربية التي صيغت دون مشاركتنا ومراعاة المصالح الروسية، وسنواصل الدفاع عن أسس القانون الدولي.
لا شك أن النجاحات التي يحققها الرئيس بوتين من خلال فتح الأبواب التي تحاول الولايات المتحدة إغلاقها ومن خلال الانتصارات التي يحققها على الصعيد العسكري في أوكرانيا وعلى الصعيد الاقتصادي في مواجهة العقوبات الغربية وعلى الصعيد السياسي عبر تشبيك العلاقات مع الصين والتحدث بلغة واحدة على المنابر الدولية وداخل مجلس الأمن. ولهذا فإن المتابعين والخبراء يؤكدون أن أسباب كراهية الغرب للروس بسبب عدم انصياع روسيا للغرب ولكونها تتطور وتتقدم برغم كل الحصار والعقوبات الغربية وإنها تتطور بشكل ذاتي. وفيما تحاول واشنطن الحفاظ على هيمنتها في العالم فإن موسكو بمناهضتها للسياسة الأمريكية تشجع دول العالم لرفض السياسة الغربية ومنطق الهيمنة والعدوان كما يحدث في أفريقيا وفي الشرق الأوسط حيث بدأت الشعوب تنظر إلى الولايات المتحدة كعدو شرس لابدّ من محاربته والوقوف بوجهه من أجل التطور والتنمية.
ومع أن الولايات المتحدة والناتو لم يستفيدا من التجارب السابقة ويواصلان دعم نظام زيلينسكي وتقديم الأسلحة له لقصف الأراضي الروسية وقتل المدنيين الأبرياء، إلا أن مخازن البنتاغون أصبحت فارغة، والأموال التي يدفعها الأمريكيون للناتو ولنظام زيلينسكي هم أولى بها. ومحاولات واشنطن لعزل روسيا فشلت، والزيارات التي يقوم بها الرئيس بوتين برغم ظروف الحرب تؤكد أن الرئيس بوتين لم يصبح منبوذا على الساحة الدولية كما قالت عضو البوندستاغ سيفيم داجديلين التي اعتبرت أن تدمير روسيا ونشر الخراب فيها يمكن إضافته إلى قائمة الأهداف الرئيسية للغرب. وأشارت البرلمانية الألمانية إلى أن هذا الهدف يبقى غير ممكن وبعيد المنال. وأشارت عضو البوندستاغ إلى أن الناتو لا يريد حدوث مصالحة بين روسيا وأوكرانيا.
الرأي العام العالمي أصبح يدرك أن روسيا بقيادة الرئيس بوتين التاريخية بات يعنيها بشكل كبير إقامة نظام عالمي جديد يضع حدا لحروب الناتو التي بدأت فور تفكك الاتحاد السوفييتي في يوغوسلافيا السابقة وأفغانستان والعراق وسورية وليبيا والصومال وصولا إلى دعم إسرائيل في تدمير قطاع غزة ومحاولة تهجير أبنائه والهجوم العدواني على الضفة الغربية. هذا الواقع دفع الرئيس بوتين إلى طرح فكرة إقامة النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب على أسس الحوار والسلام. وفيما بدأت عواصم كثيرة تعتبر أن هذا النظام هو الحل الأمثل لإعادة التوازن في العالم، تعمل واشنطن على محاولة تفكيك الدول والتحريض على زعزعة الاستقرار من خلال تغذية الحروب والفتن الطائفية والإثنية، لكن في كل مرة تفشل هذه المحاولات مع مرور الزمن.
وعلى الرغم من كل هذا، تبقى الأسئلة المهمة: هل تعي الدول الأوروبية خطورة مواصلة السير وراء سياسات واشنطن العدوانية؟ هل تعمل على مراجعة استراتيجياتها تجاه روسيا؟ هل تشكل زيارة الرئيس بوتين لمنغوليا منطلقًا جديدا لفضح سياسات واشنطن العدوانية؟ وهل تكون منغوليا نقطة جديدة تنطلق منها سياسة القوة التي تعتمدها روسيا في مواجهة الغرب؟ وهل يدرك زيلينسكي هذه الحقيقة أم أنه سيواصل السير وراء أوامر واشنطن؟
يحيى كوسا