فيما يضج العالم بالأحداث التي تحمل طابعا تاريخيا جراء تداعيات حربي أوكرانيا وغزة والانتخابات الأمريكية، ويحتدم الصراع الدولي على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية لبلورة نظام عالمي جديد، فإن سورية التي واجهت حربا طويلة ودحرت عن أرضها مع حلفائها أكبر موجة إرهاب عالمية، تواجه تحديات عديدة أهمها التحديات الاقتصادية التي أفرزتها تداعيات الحرب على الإرهاب. ومع أن الولايات المتحدة حاولت تجميد الملف السوري بعد انتهاء الحرب وعرقلت كل الجهود المتعلقة بالمصالحات الداخلية والتسويات من خلال مواصلة دعمها للإرهاب ونهب الثروات الوطنية لسورية، وفرضت عقوبات اقتصادية شاملة وقاسية عليها، وحاولت إفشال الجهود الروسية لتحسين العلاقات بين سورية ومحيطها العربي والإقليمي، إلا أن التحولات الكبيرة والتغييرات على الساحة السورية منذ بداية هذا العام تشير إلى أن سورية وحلفاءها يعملون معا من أجل إعادة الاستقرار والأمن وتجاوز تداعيات الحرب الأليمة التي عاشتها سورية. وقد قطعت شوطا في تشكيل تجديد المؤسسات الكبرى والهياكل الاقتصادية بما يمكنها من إطلاق عملية تنموية شاملة تعيد إلى سورية دورها ومكانتها واستقرارها وتحقق مصالح الجميع. وفي ضوء هذا الاشتباك والصراع الدولي والإقليمي العنيف الذي يتحكم بمسارات المنطقة والعالم، والتي تقع سورية في أتونه وفي قلبه، حيث لا يزال جزء من أراضيها تحت الاحتلال والإرهاب في شمال حلب والجزيرة وإدلب، فإن التوجهات العامة التي أطلقها السيد الرئيس بشار الأسد بعد العودة إلى الجامعة العربية في منتصف العام 2023 والانفتاح الإقليمي على سورية أعطت دفعة قوية لجهود إعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد. كما وضعت هذه التوجهات الملف الاقتصادي في مقدمة الاهتمامات والأولويات، بالإضافة إلى وضع خطط عملية لمواجهة العقوبات والحصار الغربي عبر سياسة الاعتماد على الذات، والتي كانت سورية دائما تستخدمها لمواجهة التحديات والضغوط التي تواجهها بالنظر إلى ما تملكه من ثروات وموارد وإمكانات وتنوع في المناخ والزراعات، والقدرة الدائمة على اجتراح الحلول عبر تحسين الواقع الزراعي واستغلال الموارد والاهتمام بالتصدير وفتح الأسواق والمبادلات التجارية مع دول الجوار، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة ودعمها بكل الأدوات والسبل، وتشغيل المصانع والورش والمعامل، والتركيز على تحسين أوضاع العمال والفلاحين في الأرياف، ومحاربة الفساد والهدر في مؤسسات الدولة. كل ذلك يحتاج إلى بيئة عمل جديدة تعمل سورية بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد على إيجادها من خلال تجديد الدولة ومؤسساتها الكبرى الفاعلة بما يحقق الجدوى والهدف، وبما يكفل تنفيذ الخطط الموضوعة للخروج من الأزمة ومن الحرب الطويلة.
وفي هذا الإطار، خطت سورية خطوات هامة، فكانت انتخابات الإدارة المحلية وتلاها انتخابات مجلس الشعب، وقبل ذلك شهدت سورية تغييرات جوهرية وشاملة على صعيد القيادات الحزبية، وذلك لخلق بيئة نظيفة من الفساد على مستوى البلاد، مختلفة عن البيئة السابقة، أساسها الاعتماد على القدرات الذاتية وعلى الكوادر الكفوءة التي تمتلك إرادة التطوير والعمل بلا كلل أو ملل لتحسين الأداء الحكومي وإعطاء زخم لمؤسسات الدولة وقطاعات الإنتاج فيها. فعلى الصعيد الداخلي، انتهت عمليات التغيير الشاملة التي قام بها السيد الرئيس بشار الأسد بإجراء انتخابات حزبية وانتخابات الإدارة المحلية وانتخابات مجلس الشعب. وكانت الخطوة الأخيرة تكليف الدكتور محمد غازي الجلالي بتشكيل حكومة جديدة تكون ثمرة لكل هذه الجهود، وذلك لبدء العمل في ظل مؤسسات جديدة بالكامل وكأن سورية ومؤسساتها تولد من جديد. حيث إن الدكتور الجلالي الذي سيتحمل في المرحلة المقبلة مجهودات كبيرة وينتظره عمل حكومي متعدد الجوانب، يحمل دكتوراه من جامعة عين شمس بالقاهرة، وهو عضو لجنة مركزية في حزب البعث الحاكم. وهذه إشارة إلى أن الجانب العربي كان حاضرا دائما لأن سورية تعول كثيرا على إعادة علاقاتها مع الدول العربية، رغم أن الخطوات التي تلت إعادة عضوية سورية إلى الجامعة العربية كانت بطيئة، وهذا طبيعي لأن الضغوط الأمريكية قاسية، خاصة وأن الولايات المتحدة تواجه مقاومة متصاعدة.
ولا شك أن الحكومة السورية الجديدة خلال الأيام القادمة ستكون أمام تحديات حقيقية بسبب الضغوط وبسبب العقوبات والحصار. وسيكون على هذه الحكومة العمل على إعادة ربط الاقتصاد والتجارة السورية مع محيطها العربي بالدرجة الأولى، وإلى تنشيط العلاقات التجارية بين سورية والدول العربية والدول الحليفة، وبخاصة روسيا. بالإضافة إلى أهمية توسيع العلاقات العربية والعلاقات مع الدول الحليفة والصديقة، فإن الحكومة السورية الجديدة ستجد نفسها أمام تحديات كبيرة تتمثل بقدرتها على معالجة ملف العلاقات السورية التركية المعقد، والذي يضم جوانب عديدة تتعلق بالوجود التركي غير الشرعي وباللاجئين وبالمياه وبالحدود وبموضوع الإرهاب. بالإضافة إلى ملف العلاقات السورية التركية، فإن أمام الحكومة الجديدة تحديات جمة على كافة الأصعدة، وأهمها عملية الإنتاج وخلق ظروف ملائمة لزيادة الإنتاج واستغلال الكوادر والكفاءات والموارد من أجل رفع مستوى المعيشة لدى السوريين بعد أن أنهكتهم الحرب والعقوبات والحصار، مع الاهتمام بالتربية والتعليم الجامعي والبحث العلمي، حيث أولت القيادة هذا الجانب كل الرعاية والاهتمام بسبب هجرة آلاف الخريجين وتسربهم خارج العملية الإنتاجية، خاصة في الاختصاصات العليا التي تحتاجها عملية التنمية في سورية كالأطباء والمهندسين والعمال. وبالتالي، لابد من وضع الخطط لاستيعاب هذه الكفاءات وزجهم في العمل والإنتاج، مع الإشارة أيضا إلى أن جوهر التحولات الجديدة في سورية ينبع من إعطاء زخم كبير وواسع للقطاع الخاص وللأفراد للمبادرة والعمل. ما يعني بالضرورة الاهتمام بالتجارة الخارجية والتجارة الداخلية والصناعات المتعددة، وخلق مشاريع جديدة وإعادة تشغيل المعامل والمصانع السورية. وكان لافتا خلال الأسبوع الماضي إقامة معرض اقتصادي دولي كبير هو معرض إكسبو الاقتصادي الأول، الذي ضم 600 شركة سورية وأجنبية عرضت منتوجاتها واستثماراتها معا بحضور عربي وأجنبي. شكل المعرض نموذجا لنجاح هذا القطاع ودوره الهام في إعادة الحيوية لدورة الحياة الطبيعية في سورية من خلال الاستثمارات ومشاركة الدول العربية والإقليمية في دعم الصناعة السورية وإعادة البناء والإعمار وتأمين كل الاحتياجات لإطلاق عملية الإعمار.
إن السوريين اليوم ينتظرون ما ستحدثه هذه التغييرات الواسعة والشاملة في كل مؤسسات الدولة الرئيسية كالادارة المحلية والبلديات ومجلسي الشعب والوزراء والقيادة الحزبية، وكيف سينعكس ذلك على الشارع السوري وعلى عملية الإنتاج، لا سيما إنتاج النفط ومشتقاته الذي لا يزال متأثرا إلى حد كبير بالاحتلال الأمريكي لبعض مناطق الجزيرة السورية التي تعد إلى جانب مخزونها النفطي سلة غذاء سورية بما تمتلكه من قمح وقطن. مع الوجود الأمريكي، فإن الوضع سيبقى على حاله، وهذا تحد آخر أمام الحكومة الجديدة يضاف إلى التحديات الاقتصادية، فخروج القوات الأجنبية شرط أساسي من أجل استثمار هذه الثروات.